
قبل خمسين عاماً كتب يوسف إدريس روايته «البيضاء»، التي جرت عليه لعنات وانتقادات اليسار المصري، وحين نعيد قراءة هذه الرواية الآن نشعر أن يوسف إدريس كان يستشرف كل التداعيات والتحولات التي لحقت بالنخبة المثقفة وصولا إلي مأزقها الحالي، الذي يواجه قطيعة ظاهرة مع الشارع المصري فلم يعد خطاب النخبة قادراً علي التقاطع مع هموم الشارع المصري .
كما لم تعد النخبة قادرة علي قيادة هذا الشارع وهو ما دفع نقاد اليسار لاعتبار هذه الرواية محاباة لنظام جمال عبدالناصر، ولذلك فإن قراءة الرواية الآن خارج سياقها التخويني الذي أحاط بها فور صدورها ستوصلنا إلي نتائج مختلفة، ومن هذه النتائج أن الرواية لا تقتصر علي كونها وثيقة تاريخية أو سياسية لفترة محددة، وإنما هي قصة حب من نوع خاص بين بطل الرواية الطبيب «اليساري»، وحبيبته اليونانية «البيضاء».
وليست رواية البيضاء التي تنطوي علي قراءة استشرافية هي الوحيدة بين أعمال يوسف إدريس التي تستشرف وتستلهم أوجاع الحاضر وتوثق للحظة الإنسانية المتلبسة في مصر بما تنطوي عليه من نسيج إبداعي مركب يبدو واضحاً في هذه الأعمال التي تتألف من البعد الإنساني والفكري والفلسفي والاستشرافي والتحليلي وفوق كل هذا السياسي الذي يفضح نقائض ونقائص الواقع ويحذر من مستقبلها.
ويتأكد هذا من خلال قراءة «بيت من لحم»، حيث الأسرة المكونة من أم وثلاث بنات واللاتي توفي عنهن عائلهن «الأب والزوج» وتركهن للفقر والصمت الذي لا يقطعه إلا تلاوة شيخ ضرير يوم الجمعة بانتظام حتي صار طقساً اعتيادياً لهذه الأسرة، فلما انقطع عن الحضور في موعده الثابت أحسسن بشيء ينقصهن وهو الشيخ وصوته باعتباره الرجل الوحيد الذي يطرق باب البيت المكون من غرفة واحدة إلي أن تقترح إحداهن علي أمها أن تتزوجه وهو ما يتم بالفعل .
وفي أحد الأيام عاد الشيخ مبكراً وكان يستدل علي زوجته بالخاتم ولم تكن ترتديه هذه المرة سوي إحدي البنات وتكتشف الأم الأمر بالصدفة، لكنها تصمت لتستمر لعبة الخاتم ويتعامل الضرير مع صاحبة الخاتم في كل مرة باعتبارها زوجته ويستمر صمت الأم، ألم يكن هذا العمل تعبيرا مبكراً عن خلل قيمي في التركيبة الذهنية المصرية وعن خلل اجتماعي عام، بلغ ذروته الآن واستشري علي ما نعرفه باسم العشوائيات، التي أصبحت بؤرة خطر علي المجتمع أليس هذا استشرافاً أيضاً.
ولم تكن رواية يوسف إدريس هي منبره الأخلاقي الوحيد في نقد المجتمع والنظام ونقد الأفكار السائدة المستقرة والاجتراء علي التابوهات، ولكن كان مسرحه أيضا كذلك وبالأخص في الفرافير والمخططين، التي واجهت مشاكل مع الرقابة، بل امتد هذا الخطاب المسرحي في عمومه لدي يوسف إدريس للتعرض لأفكار مؤرقة مثل الأنظمة في العالم الثالث والاحتكار وانهيار النسيج القيمي وغير ذلك من أفكار.
وفي روايته «العيب» وبمشرط جراح ماهر وكاتب استشرافي عرض يوسف إدريس المقدمات وأسباب تردي الأوضاع في بلد عظيم بسبب الانحراف الخلقي والإداري من رشوة إلي محسوبية، بل كان له السبق في توقع المظاهرات فئوية الطابع.
يوسف إدريس وصف نظرة الناس للرشوة باعتبارها أصبحت لقمة عيش، وفي عام ١٩٥٤ صدرت مجموعته القصصية الأولي «أرخص ليالي»، فكانت البداية قوية له ولتيار الواقعية المصرية التي تعني بالمهمشين والمجتمع التحتي، ولذلك كان التبسط في اللغة ضرورة. هذه كانت البداية الأولي إنها المجموعة التي تعرض لمقاومة الفقر ولطبيعة المصريين في مواجهة الظروف القاسية والحرمان.
وكانت مجموعته الأولي التي قفز بها من عالم الطب، أما عن يوسف إدريس نفسه فولد يوم ١٩ مايو ١٩٢٧ في قرية البيروم بمحافظة الشرقية لأسرة من متوسطي المزارعين تضم عدداً من المتعلمين الأزهريين وتعلم في المدارس الحكومية والتحق بعد دراسته الثانوية بكلية الطب في جامعة القاهرة، التي تخرج فيها عام ١٩٥١ وحصل علي دبلوم الأمراض النفسية ودبلوم الصحة العامة وعمل في المستشفيات الحكومية وصار مفتشاً صحياً في الدرب الأحمر .
وبدأ نشر قصصه القصيرة منذ عام ١٩٥٠ وشارك في تحرير أول مجلة يصدرها الجيش بعد قيام ثورة يوليو، وهي مجلة التحرير، التي صدرت في سبتمبر ١٩٥٢ وصدرت روايته أرخص ليالي عام ١٩٥٤ وبعدها مجموعته التالية «العسكري الأسود»، التي صدرت عام ١٩٥٥ ليتوالي بعد ذلك صدور أعماله.
وحصل علي جائزة عبدالناصر في الآداب عام ١٩٦٩ وجائزة صدام حسين للآداب عام ١٩٨٨ وجائزة الدولة التقديرية عام ١٩٩٠. وتوفي يوسف إدريس في أول أغسطس عام ١٩٩١ إثر مرض خبيث. نهاية نقف عند وصف للناقد المعروف جهاد فاضل، حيث أشار إلي توحد الكاتب مع إبداعه واتساق كتاباته مع مواقفه وقناعاته، و قال عنه «قد تكون شخصية القاص والروائي المصري الكبير الراحل الدكتور يوسف إدريس إحدي أجمل قصصه القصيرة التي اشتهر بها، وأكثرها إثارة فلم يبالغ في وصفه بأنه كان مثل كتاباته شخصية انفجارية من الصعب أن يحددها إطار جامد أو علاقة ثابتة، فقد أفضت به هذه الشخصية إلي تغيير المواقف والانتماءات الفكرية والسياسية من ناحية وإلي التشابك والتصادم مع بعض القوي والتوجهات الاجتماعية علي المستوي الفردي والجماعي من ناحية أخري، بل إن حياته الأدبية امتزجت بأوضاع الصراعات السياسية والاجتماعية لا في كتاباته، فحسب بل في مواقفه العملية كذلك .
وفضلاً عن ذلك فلم يكن يوسف إدريس يبحث بعيونه وآذانه وعلاقاته الاجتماعية والإنسانية العادية اليومية عن مصادر لاكتشافاته الإبداعية، بل جعل كذلك من يمارس حياته نفسها سواء علي المستوي الشخصي أو الاجتماعي مجالاً للتجريب والغوص والمعاناة والمصادمة بهدف اكتشاف جوهر الطبائع والدلالات والقيم والإمكانات والأشواق الخافية في أغوار النفوس وفي تشابك العلاقات والأوضاع الاجتماعية والإنسانية» .
صدام كمال الدين
0 التعليقات:
إرسال تعليق