
"إنى أتعذب ياجوزيف ولا أدرى السبب فأنا أكثر من
مريضة وينبغى خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسسه إنى لم أتألم فى حياتى كما أتألم اليوم
، ولم أقرأ من الكتب أن فى طاقة إنسان أن يتحمل ما أتحمل ، وددت لو علمت السبب على
الأقل ، ولكنى لم أسأل أحدا وإلا كان جوابه : لا شئ إنه وهم شعرى تمكن منى ، لا .
. لا ياجوزيف إن هناك أمرا يمزق أحشائى ويميتنى فى كل يوم وفى كل دقيقة لقد تراكمت
على المصائب فى السنوات الآخيرة وانقضت على وحدتى الرهيبة التى هى معنوية أكثر منها
جسدية فجعلتنى أتساءل كيف يمكن لعقلى أن يقاوم عذابا كهذا وكان عزائى الأوحد فى محنتى
هذه مكتبتى ووحدتى الشعرية فكنت أعمل كالحكومة بالأشغال الشاقة لعلى أنسى فراغ سكنى
، أنسى غصة نفسى . . أنسى ذاتى . . إنه ليدهشنى حقا كيف أنى أستطعت أن أكتب هذه الرسالة
ولعل الفضل فى هذا يعود إلى اللفائف ( السجائر ) التى أدخنها ليل نهار ، أنا التى لاعهد
لى بذلك ، أدخنها لتضعف قلبى هذا القلب السليم المتين الذى لا يزال يقاوم . واسلم لابنة
عمك " .
كان هذا نص الخطاب الذى
أرسلته الأديبة مارى إلياس زيادة والمعروفة بمى زيادة إلى ابن عم لها فى لبنان اسمه
جوزيف زيادة بعد أن بدأت حالتها النفسية تسوء يوما بعد يوم فأغلقت صالونها الأدبى وانزوت
فى حجرتها وحيدة بعيدا عن أصدقائها مما دى إلى تسلل الحزن والكآبة إلى نفسها وهى فى
قمة مجدها الادبى حيث بدأت تواجه تجارب الحياة المريرة وأقسى هذه التجارب الصادمة هى
وفاة والدها سنة 1930 لتلحق به والدتها بعد عامين أى فى سنة 1932 .
ولأول مرة تجد مى نفسها
وحيدة ومحرومة من دفء الحنان والذى لم تكن تشعر به إلا فى وجودهما وكانت تبلغ فى ذلك
الوقت من العمر 46 عاما وقد تركا لها ثروة صغيرة بالإضافة إلى ما جمعته من خلال كتاباتها
الأدبية مما يوفر لها الحماية من غدر الحياة أو الإحتياج المادى ‘ وأثناء هذه الحالة
المحزنة والمؤسفة التى كانت تمر بها أمسكت بالقلم وخطت رسالة إلى ابن عمها والذى لم
يكد يتسلم الرسالة حتى جاء إلى مصر والتقى بمى وأقنعها بأن تكتب له توكيلا ليقوم على
شئونها ورعايتها ع وأيضا يجب أن تذهب معه إلى لبنان لتروح عن نفسها وهو ماتم بالفعل
عام 1936.
ولم تكن كل هذه المشاعر
الطيبة والرقيقة التى أظهرها قريبها إلا قشرة براقة وزائفة وجزء من خطة أعدها قبل مجيئه
إلى مصر للاستيلاء على ثروتها الصغيرة ‘ثم أشاع بعد أن استدرجها إلى لبنان بأن مى مجنونة وهذا بمساعدة أفراد لا يملكون شئ
من الامانة والشرف ولا يعرفون قيمتها ومكانتها فكتبوا تقريرا طبيا يؤكدون فيه بأنها
مجنونة مما أدى إلى إيداعها مستشفى " العصفورية " وهو مستشفى للمجانين ‘
وأقام عليها جوزيف قضية حجر تمنعها من التصرف فى أموالها وممتلكاتها ونجح فى الحصول
على قرار بذلك .
كل خيوط هذه الشبكة العنكبوتية
الرهيبة حدثت فى السر وبعيدا عن عيون أصدقائها الذين ظنوا بعد العزلة التى فرضتها على
نفسها فى القاهرة أنها ذهبت إلى لبنان لتكمل فترة العزلة والانطواء أملا فى الراحة
والشفاء من أزمتها النفسية التى تعرضت لها بعد وفاة والديها ، ورغم ذلك أخذ بعض الأدباء
يبحثون عنها نظرا لطول الفترة التى أختفت فيها ويحاولوا معرفة أخبارها الحقيقية ليكتشفوا
الخطة الشريرة التى أوقعت بالأديبة فما كان منهم إلا أن أوصلوا الخبر إلى الصحافة التى
قامت بإثارة ضجة كبيرة دفاعا عنها مما أدى إلى تدخل السلطات اللبنانية التى كلفت بعض
الأطباء بكتابة تقرير عن حالتها ليكشف التقرير الحقيقة وهى " أن مى ليست مجنونة ولا تعانى من أى مرض عقلى " ولكن هذه الحالة
التى مرت بها وامتناعها عن تناول الطعام أدى إلى ضعف جسدى شديد يقتضى نقلها إلى إحدى
المستشفيات لعلاجها من الضعف الذى تعانيه .
وظنت مى وأصدقائها أنها
ستعود بعد قليل إلى عالمها الحر الطليق ولكن فترة العلاج طالت إلى مايقرب من عام مما
أدى بها إلى رفض الطعام والدواء ولشعورها بأنها مجنونة وليست مريضة ، ومرة أخرى تجمع
الأصدقاء وأثاروا ضجة كبيرة لإنقاذها مما هى فيه وتنجح الحملة الجديدة لتقيم فى بيت
خاص ويرعاها أصدقائها المخلصين وعلى رأسهم الأديب اللبنانى أمين الريحانى الذى شملها
وعائلته بكل الحب والحنان والرعاية وساعد فى رفع الحجر عنها تماما .
ولدت مى بمدينة الناصرة
يوم 11 فبراير عام 1886 لأب لبنانى وأم فلسطينية وهى الابنة الوحيدة لوالديها وتلقت
تعليمها فى إحدى مدارس الراهبات فى لبنان وتميزت منذ صغرها بقراءتها النهمة واستطاعت إتقان عدة لغات منها الإنجليزية والإيطالية
والفرنسية مما جعلها على إطلاع على الآدب والثقافة الاجنبية حتى قال عنها صاحب جريدة
" المقتطف " يعقوب صروب " كانت مى تستشهد فى كلامها معى بأبيات من شكسبير
أو بيرون كما تستشهد بالمتنبى والمعرى " ، وجاءت إلى مصر مع والديها عام 1908
شأن الكثير من الشوام فى ذلك الوقت حيث فرص العمل كثيرة وبعيدا عن السلطة العثمانية
التى كانت منطقة الشام تابعة لها وعمل والدها
محررا مسئولا بجريدة " المحروسة " وكان يملكها إدريس راغب باشا وكانت مى
تساعد والدها فى تحرير المجلة وعمرها فى ذلك الوقت 22 عاما ، وكانت فتاة ناضجة رشيقة
وجميلة مليئة بالصحة والعافية ذات صوتا عذبا رقيقا ، وعلى صفحات المجلة بدأ اسمها يلمع
كأديبة صاحبة أسلوب ملئ بالموسيقى الشعرية الهادئة وفى نفس الوقت غنى بالأفكار العميقة
.
وأخذ اسمها ينتشر ويلفت
إليه الأنظار فى أوساط المثقفين من الشوام والمصريين ، وفى عام 1914 أصبحت نجمة لامعة
فى الحياة الادبية المصرية وعمرها ثمانية وعشرون عاما وجعلت من بيتها صالونا ثقافيا
يلتقى فيه الأدباء والمفكرون اللامعون يوم الثلاثاء من كل أسبوع ، وظل هذا الصالون
مفتوحا بانتظام طوال عشرين سنة تقريبا وأكثر المنتظمين فى حوره طه حسين ولطفى السيد
والعقاد والزيات ومصطفى عبد الرازق ومنصور فهمى وخليل مطران . . . وغيرهم .
وكانت كتاباتها تنشر فى
الصفحة الأولى من جريدة الاهرام ويقبل الادباء والمثقفين والقراء على هذه الكتابات
لعذوبة التعبير وعمق التفكير والجرأة فى تأييد الأفكار التى تدعو إلى النهضة والتقدم
والمساواة وتحرير المجتمع من التقاليد والقيود التى تعوقه عن ملاحقة العصر والحضارة
الحديثة ، ومن أفكارها الاساسية الدعوة إلى تحرير المرأة وتعليمها وإتاحة الفرصة لها
لتخوض الحياة العملية جنبا إلى جنب مع الرجال ، وأيضا الدعوة إلى المساواة الإجتماعية
ورفض التفرقة بين الناس على أسس غير عادلة وذلك فى كتاب بعنوان " المساواة
" ، ودافعت مى عن اللغة العربية ومن ذلك قولها ( . . لقد عدت اليونانية واللاتينية
فى صف اللغات الميتة منذ سقوط مدنيتيهما فماالذى حفظ العربية حية بعد زوال المدنية
العربية بقرون سبعة . . ؟ إن الذى كان باعثا على تكوين المدنية العربية هو الذى مازال
حافظها إلى اليوم : هو القرآن لذلك ستظل اللغة العربية حية مادام الإسلام حيا ومادام
فى أنحاء المسكونة ثلاثمائة مليون من البشر –فى ذلك الوقت - يضعون يدهم على القرآن
حين يقسمون ) ولم يؤثر كون هذه الاديبة مسيحية الديانة على إعتزازها باللغة العربية
ومشاركة أبناء وطنها من المسلمين حبهم واعتزازه بهذه اللغة ، وبحم كونها أديبة فهى
تعرف للقرآن الكريم مكانته السامية وتأثيره على الآدب واللغة فى الثقافة العربية .
أصدرت مى العديد من الكتب
التى تجمع بين التأليف والترجمة والبحث والدراسة والتعبير الوجدانى فبالإضافة إلى كتاب
المساوة هناك كتاب إبتسامات ودموع ، الصحائف ، كلمات وإشارات ، ظلمات وأشعة ، وبين
الجزر والمد . . . وغيرها .
وبرغم محاولاتها فى العودة
إلى حياتها الطبيعية إلا أن التجربة التى مرت بها حملت من الألم والمرارة بحيث كانت
كفيلة بأن تحطمها فأخذت صحتها فى التدهور حتى توفيت فى 17 أكتوبر سنة 1941 ودفنت إلى
جوار والديها وكانت تبلغ من العمر وقتها خمسة وخمسون عاما .
صدام كمال الدين
0 التعليقات:
إرسال تعليق