يتحدثون لأنفسهم ولا يسمعهم أحد
![]() |
عبد العزيز موافى |
يرى الشاعر عبد العزيز موافي أن الإشكالية والمعضلة التي تعاني منها قصيدة النثر الآن ليست في عدم وجود شعراء جيدين، وإنما في غياب حركة تنتظمهم، منابر أدبية مناسبة، حركة نقدية، أو وسائل اتصال مع الجماهير لتقديم هذا المنتج الجيد وبالتالي يظلون شعراء غرف مغلقة بدورهم، وبرغم هذا فإن لها منجزاً مهماً ويتمثل في رفضها مداعبة الأذن متمثلة في الإيقاع الذي يطغى أحيانا على الفكرة والمضمون .
* كيف ترى المشهد الثقافي الآن؟
هناك حراك شعري هائل بين مختلف الأجيال الموجودة على الساحة الآن، لكننا نمتلك شعراء لا حركة شعرية، وهذا هو السبب الرئيس في أن دولاً عربية أخرى تنظر إلى مصر على أنها متخلفة شعرياً، ومتفوقة في الرواية، والإشكالية الحقيقية أن الشعراء الفرادى لا يستطيعون التأثير في وجدان أمة، ففي الستينات كان هناك أكثر من 10 دوريات أدبية، وجزء كبير منها كان موجوداً لمتابعة الحركة الثقافية، لأن هناك لا يوجد نقد نتيجة لغياب الدوريات النقدية، مما ترتب عليه انتفاء الحركة الشعرية، وبالتالي يظل الشعراء أسرى الأماكن المغلقة فيتحدثون لأنفسهم ولا يسمعهم أحد في الداخل أو الخارج، وهذا ما يجعل أي إنجاز شعري أسير الجدران المغلقة .
* هل يعني هذا أن مقولة الدكتور جابر عصفور بأننا في زمن الرواية هي مقولة حقيقية؟
اختلف مع مقولة جابر عصفور تماماً، لكنني اتفق مع النتيجة التي توصل إليها وهي أننا نعيش عصر الرواية وهذه ليست نظريته وإنما هي نظرية القرن الثامن العشر الذي كان يتصور أن الشعر هو نتاج العصر الكلاسيكي، لأن الشاعر كان هو المنشد وصاحب الجهاز الإعلامي في الدول الإقطاعية القديمة، وفي العصر البرجوازي عندما أصبح الإنسان هو مركز العالم وتراجع الانتماء إلى الأسرة وأصبح الانتماء للذات الفردية، ومعظم الشعراء في القرن الثامن عشر هم من الطبقات الدنيا وتبوؤا مكانة عالية، لأن العصر كان عصر الإنسان الفرد، ومن هنا كان لا بد من ظهور نوع أدبي جديد يحمل معه تصورات وأحلام الإنسان البرجوازي الذي بدأ يتشكل، فكانت رواية روبنسون كروز هي فاتحة للدخول في هذا العصر، وفي العالم العربي بدأنا مؤخراً منذ الربع الثاني من القرن العشرين ندخل في العصر البرجوازي، ولهذا السبب وحده انتشرت الرواية ولكن ليس على حساب الشعر، كما يعتقد البعض، وبعد ظهور أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية التي بدأت تعتمد على الدراما مما قرب الرواية من ذهن القارئ وأبعده عن الشعر، أصبح قارئ الشعر نخبوياً، والحقيقة هناك طفرات هائلة في الشعر تفوق ما حدث في الرواية، لكن لأن الفيصل في الإبداع دائماً ما يكون هو الجمهور فيبدو الأمر كما لو كنا نعيش عصر الرواية، ونحن نعيش عصر الرواية على مستوى الإنتاج الكمي وحده .
* قلت في ديوانك 25 ميدان التحرير: حين يصير الزمان إلى خلود/ سوف نراك من جديد / لأنك صائر إلى الميدان/ حيث الكل في واحد، والآن هل أصبح الكل في واحد؟
هذه الصورة الشعرية ليست لي وإنما وردت في كتاب الموتى، كتبها توفيق الحكيم في مقدمة روايته الشهيرة عودة الروح، واستعرتها لأنها بالفعل كانت تعبر عن الحالة الثورية، فالرجل العادي اندمج في السياسة وأصبح يذهب إلى الميدان، والعروس تذهب إلى الميدان، ومن يحتفل بعيد ميلاد أطفاله يذهب إلى الميدان، في الميدان صار الكل في واحد بالفعل حتى 11 فبراير/شباط 2011 وبعدها بدأ التشرذم .
* في آخر قصيدة بالديوان تقول: الذين اقتطعوا من أحلامهم / لا تزال جذورهم باقية / في الميدان، ألا ترى أن الميدان أصبح مشوهاً؟
هذه القصيدة مرثية أرثي فيها من دفعوا دماءهم ثمناً لتحقيق أحلامهم التي ضاعت تحت الأقدام، وبدأت شعارات أخرى ترفع بدلاً من عيش، حرية، عدالة اجتماعية، لتصبح القرآن دستورنا، لا إله إلا الله، وكأن من يقول هذا هو المسلم الوحيد وباقي الشعب كافر، والدعاوى الجديدة بتطبيق حدود الله، أو أن السلطة ليست للشعب وإنما لله، فدخلنا في متاهة أخرى وضاعت كل الشعارات التي رفعها الشباب الذي دفع دمه ثمناً لهذا المجد الذي تحقق في الفترة من 28 يناير/كانون الأول حتى 11 فبراير/شباط 2011 .
* البعض يتساءل هل الشعراء بحاجة للجنة شعرية أو لوزارة ثقافة من الأساس؟ وما الذي يمكن أن تضيفه لهم؟
أثناء وجود فاروق حسنى كنت مديراً عاماً للنشر بالمجلس الأعلى للثقافة وسئلت في برنامج تلفزيوني ما رأيك لو أصبحت وزيراً للثقافة ماذا ستفعل؟ قلت سأقدم استقالتي فورا لأنني لا أؤمن بوجود وزارة ثقافة في مصر هي نتاج مرحلة كانت تهدف إلى التوعية من خلال الثقافة الجماهيرية وقامت بدور رائع في وقت من الأوقات، وفي حقبة السبعينات كان لمعظم المثقفين ميول يسارية أو ناصرية أدخلتهم في صدام مع السلطة ليتم غلق جميع المنابر الأدبية، وأسست مجلة هزيلة اسمها الجديد برئاسة رشاد رشدي الذي كان ينتمي للفكر الساداتي، وهنا شعر المثقفون بلحظة الخطر التي تحيل الفرد إلى المجموع لنلتف جميعاً حول هدف أسمى، وبدأنا نصدر مجلات الماستر لتوزيعها باليد على بعضنا البعض وبدأنا نؤسس الثقافة الشعبية، كمجلة النديم، كتابات، وعشرات من الإصدارات التي انتشرت في القاهرة، الأمر الذي فعَّل الحراك الثقافي وأدى وجود وزارة الثقافة في مصر بدعة .
* من وجهة نظرك هل هناك بالفعل معركة حقيقية تدور على الساحة ما بين قصيدة النثر والتفعيلة؟
من يطرح هذه المقولة إنسان لا يفقه أبسط مبادئ الجدل الذي هو صراع بين فكرتين يترتب عليه ظهور فكرة ثالثة، والاتجاهات الأدبية التي يتم تجاوزها تقبع في قاعة الانتظار التاريخي حتى تعاود الظهور من جديد بعد أن تقوم بتطوير نفسها لتنافس المبادئ الجديدة التي بدأت تظهر على الساحة، مثلما حدث مع الواقعية التي عادت بعد أن طورت نفسها لتظهر في ثوبها الجديد وهو الواقعية السحرية، وفكرة موت جنس لظهور جنس آخر هي مقولة ساذجة جدا، فقصيدة التفعيلة قائمة، وكذلك الكلاسيكية، وكل الأجناس التي ظهرت من قبل، وعلى كل جنس أن يقوم بتطوير نفسه مع كل جنس جديد، والمشكلة لدينا أننا نقوم بعملية الإقصاء الشعري لتحكمنا من خلال توهم معارك فارغة .
* لكن هناك اتهاماً يطارد قصيدة النثر، وهو أنها ليست جماهيرية أو فاعلة؟
كل الشعر الآن ليس جماهيرياً، فعلى سبيل المثال ربما تسأل بعضاً ممن يبدو على سيماهم الثقافة: هل تعرف الأبنودي؟ سيقول لك نعم هو شاعر عامية عظيم، وربما لا يكون قرأ له ديواناً واحداً، وعلى هذا المنوال سيكون من الطبيعي أن أدونيس غير معروف بالنسبة للكثيرين .
* هل يمكن أن يكون لقصيدة النثر شكل شعري محدد كما طالب البعض؟
قصيدة النثر لها مجموعة من الخصائص المختلفة تماماً عن خصائص الأشكال الشعرية السابقة عليها، كالمجاز البصري وفعل المشهدية، والمشكلة أن من يتعاملون مع قصيدة النثر من خلال معايير نقدية سابقة، واختلاف الأدوات هو الذي يجعلهم يدخلون في حالة ضبابية، وإذا استطاعوا أن يضعوا أيديهم على المرتكزات الأساسية داخل هذا الجنس الأدبي الجديد واستوعبوا هذه العناصر وبدؤوا يطبقونها سيكتشفون أن هناك جماليات جديدة تنقلها لنا قصيدة النثر .
* ومن يكتبون قصيدة النثر هل يلتزمون بهذه المرتكزات؟
هذه ليست منظومة للشعر على الإطلاق، فالقواعد تستنبط من معظم ما يكتب وليس من كل ما يكتب، والوضع الطبيعي في كل الكتابات الأدبية أن يكون هناك خروج على القواعد، فالفنان الجيد كلاعب الشطرنج الجيد الذي يتبع القواعد بدقة، أما الفنان العبقري، فمثل لاعب الشطرنج العبقري الذي يكسر القواعد ويخترع أخرى جديدة .
صدام كمال الدين
20/10/2012
0 التعليقات:
إرسال تعليق