يحلم بكتابة رواية تشبهه
![]() |
سعيد الكفراوى |
قابلتها مصادفة ومن خلالها عبرت عن هؤلاء الذين يزاملونني في الأرض والسكن والمقبرة " بهذه العبارة يعبر القاص المصري سعيد الكفراوي عن رضاه بكتابة القصة القصيرة على مدى نصف قرن ، ولكنه برغم عشقه للقصة القصيرة إلا أنه يحلم بكتابة رواية تشبهه وتحمل صوته ، وهو يرى القرية والتى شكلت منبع الإبداع لديه بأنها قديمة تحمل صوت القاص وكأنها قادمة من أبدية محملة بالتقاليد والخرافات وحقيقة الموت ، بخلاف المدينة الغامضة والمحملة بإرث غريب ، وبقهر السادة وعناء الجماعات المغمورة .
الكفراوي أحد رواد فن القصة القصيرة في العالم العربي، ويشكل الموت والكتابة عن الطفولة والعوالم الأولى متكأً أساسياً في مشروعه الإبداعي حيث يمزج فيه الواقعي بالخيالي لتخرج لنا الحكايات محملة بأحوال الجماعات المهمشة والمغمورة ، وقدم أكثر من ثلاثة عشر مجموعة قصصية بدءا من مدينة الموت الجميل ، والبغدادية ، ستر العورة ، رائحة الليل ، كشك الموسيقي ، بيت للعابرين ، زبيدة والوحش ، ياقلب مين يشتريك ، سدرة المنتهى ، دوائر من حنين، و عشرون قمراً في حجر الغلام، وحصل على جوائز عدة، وترجمت أعماله إلى الفرنسية والإنكليزية والألمانية .
من قال أننى لا أؤمن بكتابة الرواية ؟ فأنا أتمنى وأحلم بكتابة رواية تخصنى وتشبهنى وتحمل صوتى مثلما حملت القصة وعبرت بكل صدق عن تلك الجماعات التى أنتمى إليها ، وأعشق القصة التى قال عنها باسكال يوما " إن الصمت الأبدى لهذه الآماد اللانهائية يرعبنى " ، وما أختلف حوله هو أن يحتجز نوع من الأدب ليكون صالحا لزمن بعينه ،مثل من يقول أن الزمن زمن الرواية ، وأكثر من مرة ذكرت أن الفن الجيد صالح لكل زمان ، وأقصد به الفن الذى يحمل الوعى الحاد بالتفرد الإنسانى سواء قصيدة من الشعر ، أو قصة قصيرة ، رواية ، مسرحية ، لوحة ، أو معزوفة من الموسيقى ، ولا أختلف على أن الرواية هى صوت المجتمع إلا أن القصة القصيرة هى صوت الفرد . . صوت الكاتب حيث تزدحم حياة بكاملها فى لحظة من زمن أو موقف إنسانى لا ينسى ، ولكنى ضد المقولات التى تتحول بقصد إلى شعارات فالفن فى نهاية الأمر سعى للمعرفة وإدراك لأهوال الحياة والموت .
* فى لابورصا نوفا أثناء حكيك عن القرية وتواجدك فيها دخلت فجأة المدينة وصرت تحكى عنها ، فهل تعتبر القرية والمدينة وحدة واحدة لا تضاد أو تناقض بينهما أم أنهما لديك عالمان مختلفان كل قائم بذاته يختلف ويتناقض مع الآخر ؟
نظر بعض النقاد إلى تجربة الكتابة عندى وأعتبروها جدليات تتقاطع وتنتهى بطرح أسئلة حول المصير الإنسانى منها جدل القرية / المدينة ، فالقرية بتراثها وثقل ماضيها وإحساسها بالثبات فى الزمان والمكان ،هى قرية قديمة تحمل صوت القص والقصاص وكأنها قادمة من أبدية محملة بالتقاليد والخرافات وحقيقة الموت ، أما المدينة فهى غامضة بإرث غريب محمل بقهر السادة وعناء الجماعات المغمورة .
والفتى فى قصة " لابورصا نوفا " كان يبحث عن ملاذ . . عن موطئ لقدم لأننى كتبتها بعد هزيمة يونيه / حزيران حين كان الوطن فى أسر نكبته المروعة ، وفى كل أحواله مثل ضرير يتيم يتلمس الخطى ، فتجربة القرية والمدينة هى تجربة لكاتب فجرت لديه هذه الحالة طاقات الكتابة حيث كان فى ذلك الوقت يحاول الوقوف على المنحى حتى يتاح له التعرف على ماضى وحاضر ومستقبل وطن يعيش تحولا لم يكن فى الحسبان .
* وذكرك للشاعر عفيفى مطر فى القصة هل كان مقصودا ؟
لأن تجربة عفيفى مطر الشعرية هى أقرب التجارب لتجربتى القصصية ، حيث تجمعنا نفس المفردات والصور ونبرات الصوت ، وأذكر ما كتبه عن مجموعتى الأولى " مدينة الموت الجميل " حيث قال : " أزمنة متراكمة من الوعى الجماعى ، وطبقات من الذاكرة المحتشدة بحركة الأسلاف وكثافة حضورهم الحى فى الهياكل المتداعية والدور القديمة والسعى الخلاق هو التنقيب الموهوب فى عالم هذا الكاتب الذى ينفتح على نضارة التذكر وصبوة الزمان والمكان " .
وهذا الكلام ينطبق على تجربة عفيفى مطر مثلما يكشف أمامى طريق الخلق الفنى ، وبالتالى عندما أستحضر عفيفى فى العديد من النصوص إنما أستحضر ذلك الصوت الذى يأتى من أبدية القص .
* تجربة السجن والإعتقال حاضرة بقوة فى مجموعتك الأولى فهل كانت مؤلمة جدا بحيث ترى ان الحكام لم يضطهدوا جيلا مثل جيلكم ؟
أنتمى لجيل هو من أبناء ثورة يوليو 52 تعلم فى ظلها وعاش إنتصاراتها وهزائمها ، وأغلب كتاب جيلى شرفوا الإعتقال واختلفوا مع الزعيم الذى أحبوه ، فصدقناه فى كل احواله عندما كان يتكلم عن العدل الإجتماعى والتحرر الوطنى ومقاومة الإستعمار ، والأفق المفتوح على الحرية حتى جاءت هزيمة يونيه / حزيران التى انتهت إلى النفتاح الاقتصادى والتعصب الدينى وسطوة الارهاب واهتزاز الدور الثقافى الرائد لمصر المحروسة ، هكذا عارضنا وأيضا دفعنا ثمنا فادحا من عمرنا وانتهى الأمر بى وبجيلى إلى البحث واكتشاف معنى وجودنا فى واقع تكمن المعانى فيه فى مظالم ممتدة ولاتنتهى .
ففى قصة " الجمعة اليتيمة " وهى عن الاعتقال يسمع البطل صوت قادم مع الفجر إلى زنزانته فيذكره الصوت بصوت جدته وهى تنادى على الغائبين فى الحلم وكأنها تستدعى الاسلاف الذين ماتوا موتا عجبا .
* فى معظم قصصك نلاحظ إرتحال البطل من القرية إلى المدينة . مالذى يعنيه هذا الارتحال ؟
الارتحال تفرضه طبيعة الحياة ، فكلنا نغادر قرانا لكننا نكتب عما عشناه فيها حيث نجابه الواقع بارتحالنا القديم ، وبالصور والحكايات التى كونت وعينا القديم ، والرحلة فى المكان تفارق رحلة الزمان ، فرحلة الزمان ذاكرة وهى التى تساعدنا على الكتابة وفى النهاية الذى يعنيه الارتحال محاولة دائبة للبحث عن إجابة . . عن معنى ذلك الحنين للماضى وللنبش فى الذاكرة التى هى النبع الأول الفياض لكتابة القصص .
* فى قصة زبيدة والوحش خاصة " نص 2 " كأننا أمام نص لأحد المتصوفة إلاما يعود هذا ؟
" زبيدة والوحش " قصة عن الخصوبة وذكرها أستاذى الدكتورعلى الراعى بأنها تميمة ضد الفناء ، فالبهيمة التى طلبت " العشار " تتقاطع مع زبيدة الصبية الحالمة بالستر وإطعام الفم ومواجهة العوز ، وهى قصة فى نصين والنص الثانى يكاد يكون قصيدة من الشعر حيث يستعرض الخصوبة فى روح مصر وينتهى بموت الثور فيكون النشيد الأبدى حاملا دلالته عن حقيقة وجود الكائن فى المكان والزمان ، فأنا أشد الناس إخلاصا لما أحبه لذلك أحب تلك الحياة التى اكتب عنها بفيض من مغامرة تحاول الكشف عن نبؤة وسط حياة الناس العاديين .
* بعض الشخصيات تكررت كثيرا فى قصصك كأمينة وعبد المولى ، لماذ ؟
اعترف اننى وعبر 13 مجموعة من القصص اكتب عن طفل واحد قد يكون طفلا أو صبيا أو شابا أو كهلا وقد يكون اسمه عبد المولى أو عليا ، فهو طفل أيامى الممتدة من الميلاد حتى الكهولة ومن كتاب القرية حتى المدينة المزحمة ومن النور إلى الظلام حاملا معنى إلتقاط الشعر وحاملا أفقا مفتوحا على الاحتمالات . . كل الاحتمالات .
* العديد من القصص لديك وخاصة مجموعة " ستر العورة " هى اشبه بحلم ولكنه غير مرتب حيث يتاخل الماضى مع الحاضر ؟
فى الحلم تتحقق الأحلام ، ففى قصة " الجمل ياعبد المولى الجمل " صراع بين الغلام والجمل واعتبار الجمل أحد شيوخ الطرق من الصوفية والغلام فى الحلم يحلم بالخلاص ، وتيمة الحلم تساعد الكاتب على استخدام أقصى حدود واتساع مخيلته ، فعندما سألوا مرة جارثيا ماركيز كيف كتبت رواياتك فأجابهم أكتبها بالحنين ، وإذا سألتنى كيف كتبت قصصى سوف أجيب كتبتها الأحلام ، وأى كاتب يعتمد على ذاكرة قديمة تعيش فى كل الأزمنة والماضى أصدق الأزمنة ، وفى قصة " قصاص الأثر " كان الراوى يستمع لأغنيات أمان . . أمان التركية وكان يبحث عن التحف فى الأبنية والأثارات ولم يحقق نجاحا يذكر فى أن يقتنى شيئا إلا فى الحلم .
وأواجه بالاحلام إحباطات الواقع وأصغى لصوت ينبع من هناك من آخر الوعى يقول إن غايته أن يستحوذ على زمن يضيع ، وهل هناك من استحوذ على الزمن ؟ أم هو الحلم الذى يتردد كثيرا فيما أكتب لذلك كانت " ستر العورة " الحنين النهائى لبطل عاش على الأحلام .

قصة قصاص الأثر قال عنها ادوار الخراط أنها من فرائد القصة العربية ، وأنا أعتبرها صرخة فى وجه الزمن ، فهى عن ذلك الذى غايته أن يستحوذ على زمن يضيع . . عن إرث الجدود للأحفاد وعن كل هؤلاء الذين يبحثون عن الستر فى واقع أكثر ضراوة ووحشية .
إنهم هؤلاء الذين يعيشون الماضى الذى سلف ويظنون انه انتهى من غير رجعة لكنه يتجسد فى ثقافتك وتراثك وإحساسك وكل ماتعيش حيث لاشئ يفنى أو يضيع ، والكاتب عندما يكتب لا يعيش الحاضر بل كل الأزمنة حيث هى صالحة لقص القصص .
* فى العديد من قصصك كتلك الفصول وغيرها ما إن تبدأ رصد تغيرات وتطورات المجتمع المصرى حتى تعدل عن هذا . لماذ ؟
نحن نعيش متغيرات فادحة حيث حقبة انهيار الأمال وسطوة الماضى وهجرة المصريين إلى الخارج واكتساح جماعات الإرهاب لأفق كان مليئا بأفكار الأنوار واشراق الثقافة والحرية ، وعشنا حقبة استبدال الزعماء أنفسهم بالأمة وغنى العرب الباهر وفقرهم العلمى وفقدانهم القدرة على الفعل ، ورغم مناداة الكثير بالحرية رأيناها تتراجع ، والديموقراطية كيف تتحول إلى استبداد ، والتنوير إلى ظلام ، وكل تلك المعانى ليس من الضرورة أن تظهر فى الكتابة بذلك الوضوح ولكنها تجئ عبر صراع داخل نسيج النص وفى النهاية نحن ننتمى لكتابة لا تعبر مباشرة عما تقول ولكنها تقدم المعنى عبر بناء قصصى يحمل حداثته ولغته .
* الثور والحصان والكلب فى أدبك هل هم من متلازمات القرية ؟ وما دلالتهم لديك ؟
كل مخلوقات القرية استخدمتها فيما كتبته من قصص وهى فى الأول والآخر وسائط للتعبير باللغة والتجسيد الدرامى عما أريد قصه وكلها تحمل معنى الحياة ودلالة عن الوجود .
* فى قصة "عشب مبتل " تحدثت بضمير المتكلم والغائب فى نفس الوقت فهل هناك سبب فنى استدعى ذلك ؟
قصة عشب مبتل تقوم على تعدد الأصوات كصوت السيدة وصوت المطارد المتربص وصوت الغائب وتلتقى كل هذه الأصوات فى لحظة الاعتداء الجسدى مع ضعف الكائن الذى حمل السكين للدفاع عن الشرف ، انها قصة عن سطوة الغريزة فى مواجهة اقتحام الجسد .
* فى أدبك هل المرأة أثمة بطبعها حيث أنها مع قليل من الضغط تستسلم للاثم أم أن هذا تعبير عن سيادة القهر الذكورى للمرأة والتى لاتجد أمامه سوى الاستسلام كما فى قصتى الأرض البعيدة وعشب مبتل وغيرهما ؟
لا أكتب بخطة سابقة على فعل الكتابة ففى كل الأحوال أسير إلى لحظة فيض تأتينى من حيث لا أدرى فأنا حبيس أنتظر منة الإله على كى اكتب ، والمرأة لم تكن أثمة على الاطلاق فى قصصى فهى الأم والجدة والزوجة وهى " الطاهرة " فى " عزاء " وهى قصة عن البنت الكفيفة التى أخذت بيد عبد المولى لتعرفه معنى الموت والرحيل ، والاثم آخر الأمر اثم يأتى به القدر لشخص مقدور عليه فعل ذلك ، وانا من المؤمنيين بالقدر فى الكتابة ولا أستطيع ان اغير من أقدار شخصيات قصصى .
* قلت بقصة سدرة المنتهى أننا " نرتد إلى طفولتنا آخر المطاف " برأيك لماذا ؟
مجموعة سدرة المنتهى قال عنها طيب الذكر استاذى شكرى عياد " الزمن فى قصص الكفراوى هو زمن بئر تتقطر فيه تجارب الانسان فلا فرق بين تجربة انسان عاش فى أقصى الأرض وانسان يعيش فى قرية مصرية فالزمن البئر مفهوم الانسان للفن والحضارة .
انها مجموعة اعتبرتها ايقونة فيما كتبته بسبب من مناخ القص بها وذلك الغموض الذى يحوط كل شئ ، فهناك " لص بغداد " و " قصاص الأثر " و " صانع التماثيل " فمن خلال انتمائى لقرية قديمة تكاد تختفى ، وثمة بعض الأماكن باقية وبعض الحكايات قائمة فى الذاكرة وفى آخر المطاف أحاول أن أخلد ذلك على الورق وازاء هذا الزوال أستدعى طفولتى لعلها تساعدنى على التذكر .
* أنت من أدباء قلائل يظهر فى أدبهم صدى الآخر " المسيحى " بجوار الأنا " الكلمات الصوفية والايات القرآنية " . إلى ماذا يعود هذا ؟
قبط مصر عنصر أصيل فى تكوين شعب مصر لهم تراثهم وثقافتهم ودينهم الممجد فى عيسى ومريم البتول ، ومن المدهش أن هذا التراث القبطى يمثل جزءا حيا من ذاكرتى كمسلم حيث التاريخ المشترك والزمن الواحد بل والهم أيضا .
* مجموعتك دوائر من حنين تحدد دائما مسافة فاصلة وواضحة بين الراوى وباقى الشخصيات بعكس مجموعاتك الأولى التى كانت تتداخل فيها الشخصيات . فهل هذا تطور فى أسلوب الكتابة لديك ؟
يعيش الكاتب طوال الوقت تطورا فى أشكال الكتابة ، ودوائر من حنين هى أجزاء تشتمل تجربة الراوى عبر عمره ، فهناك حنين قروى وحنين للدهشة وحنين للماء وحنين مؤجل ، ويختلط فى هذا الكتاب الحنين بمجمل ما عاشه الراوى من أساطير ومن لحظات نادرة مدهوشا من أفعال الدنيا بالإنسان ، وفى قصة "شرف الدم " الموت يترصد خطا الشخصيات ولا أحد يمكنه الفرار ، والموت ليس بالضرورة نهاية للحياة ولكنه مكمل لها هو موت يعقبه بعث مثل الموت عند الفراعنة ، والكتابة فى تلك المجموعة ذات شكل يقترب من الشعر ويضاهيه ، واللغة حية تنتزع شخصياتها من تراب الدنيا وتضعهم فى بهجة النور ، وفى قصة العراة هذا الذى فعل المستحيل ليصل إلى روح صديقه العاجز .
إنها قصص حول الحياة والموت وأنا كشخص يصيبنى الرعب من الأبدية فأكتب وجهى كما كتب المعلم بورخيس وجهه .
* وكيف ترى واقع القصة القصيرة فى العالم العربى ومستقبلها ؟
أعتقد بأن ثمة عودة الآن لكتابة القصة القصيرة وأن صيحة زمن الرواية خفتت كثيرا وثمة مؤتمر للقصة القصيرة وجوائز لها هنا وهناك وتقدير نقدى لكتابها ، وتعود القصة القصيرة الآن لتعبر عن الجماعات المعزولة تلك التى تعانى من ضغط الواقع الاجتماعى وتسعى إلى متنفس يعينها على تلمس حرية مفتقدة وتبدع أشكال الزمن فى الزمن والواقع من الأسطورة والحلم فى الصحو والمنام والتراث فى المعاصرة تستعيد ما أنجزه شيوخها العظام تشيكوف وكافكا وفوكنر وهيمنجواى والعظيم بورخيس ويوسف ادريس وزكريا تامر وادوار الخراط وغيرهم لأنها الشكل الأمثل للتعبير عن وحشة الانسان فى عالم أكثر قسوة .
صدام كمال الدين
5 يونيو 2010
0 التعليقات:
إرسال تعليق