أطفال النيل يولدون ويتزوجون وينجبون في الماء


إضافة تسمية توضيحية

«يا مراكبي شد القلوع يا مراكبي، ما فيش رجوع يا مراكبي».. هكذا يتغنى الفنان محمد منير في إحدى أغنياته، أما على أرض الواقع ستجد مجموعة من الناس وقتهم موزع ما بين الحياة على المركب ومشاركة البط اللعب و«البلبطة» في مياه النيل وأطفالا يعيشون ويمرحون ثم يكبرون، ويعملون، ويتزوجون، وينجبون على سطح مركب، لا يكاد يسع أكثر من أسرة مكونة من ثلاثة أفراد.. «الحواس الخمس» أخذتكم في جولة إلى نيل مصر، حيث عشرات الأسر التي تعيش بداخل قارب صغير يتراوح طوله بين ثلاثة وأربعة أمتار وعرض متر واحد.. فإلى التفاصيل.

عمر هذه الظاهرة في مصر والتي تتوزع بين العاصمة والضواحي من وراق العرب / شمال القاهرة إلى حي المعادي في الجنوب لا يتعدى الستين سنة، فقد نشأت في خمسينات القرن الماضي عندما لجأ العديد من الأسر إلى الحياة في مراكب صغيرة بعد أن يئسوا من الحصول على شقة لذا ظهرت في العديد من الأماكن على شاطئ النيل حياة أخرى تتكون من أطفال ورجال ونساء وغسيل ملابس وطبخ، واستحمام.
والمركب الصغير، لمن لم يشاهده عن قرب، هو قارب مصمم ليكون بداخله فتحتان إحداهما في المقدمة لتخزين متطلبات المعيشة وأخرى في مؤخرة القارب؛ ليتم حفظ أدوات الصيد بها.. أما المساحة المتبقية في منتصف المركب فهي أشبه بصالون المنزل وأيضا غرفة النوم، حيث تتجمع أسرة الصياد للجلوس أحيانا والنوم في أحيان أخرى.

ولدت في البحر


التقينا «أبو محمد» صياد وسألناه عن طبيعة معيشته فقال: أنا لا أعلم أين ولدت ولكني «وعيت على الدنيا» لأجد نفسي في «البحر» والآن أنا متزوج ولدي ولدان «محمد» و«صبري» وبنت اسمها «ملك»، وزوجتي بنت صياد ونعيش معا على المركب..
ويستطرد: أعمل أنا وأسرتي طوال اليوم منذ أذان الفجر وحتى غروب الشمس، ونوزع العمل فيما بيننا، فأقوم بإعداد الشباك وتوزيعها في الماء، وزوجتي تساعدني في قيادة المركب، أما أبنائي فيساعدونني أيضاً في العمل وتصنيع الشباك وغير ذلك ونحن نعمل رزق يوم بيوم، فمن الممكن أن نجني ثلاثين جنيها في اليوم، وأياما أخرى لا يجود علينا النيل بشيء.
يضيف أبو محمد: النيل له مواسم يجود فيها بخيره وأخرى يبخل، وفي الشتاء يصوم السمك ولا يأكل، كما أن الجو يكون باردا ولكننا استطعنا التكيف مع الظروف، فنستخدم مشمعا وخيما تتم إحاطة المركب بها من جميع الاتجاهات ونستخدم فانوسا أو «لمبة جاز» للإنارة بداخل المركب، وقال: طبيعة عملنا تتطلب أن نظل بجوار الشباك بعد إلقائها بالبحر حتى لا يجرفها التيار أو يأخذها شخص آخر، وعملنا ليس بالنهار فقط وإنما بالليل أيضا وليس لنا أماكن ثابتة نصطاد منها.
وعند سؤاله عن الشهادات التعليمية التي حصل عليها قال: ذهبت إلى المدرسة في بلدتي المنوفية القريبة من القاهرة لمدة 4 سنوات ولكني لم أتم تعليمي لأن والدي لم يكن معي حيث كان هنا في النيل وكنت أسكن مع جدتي لذلك كنت أحس بالوحدة، ولدي أخوة آخرون يصطادون في النيل في المنوفية، وأنا هنا منذ 7 سنوات تقريبا، ونذهب إلى بلدنا في الأعياد والمواسم.
ويضيف: زوجات الصيادين متعاونات جدا معهم ويشاركنهم، وبعد الانتهاء من العمل يذهب الرجال إلى المقهى في أوقات فراغهم والنساء يجتمعن في مركب واحد يتحدثن كعادتهن أو يستمعن إلى بعض الأغاني هذا عندما لا يكون لدينا عمل.

زفاف النيل


«مصطفى جمال» أحد الصيادين ولديه مركب صغير، يقول: نبدأ يومنا بالصيد ونذهب به إلى السوق لبيعه وهناك من يصطاد بالليل لوجود السمك الكبير.
ويضيف: عددنا هنا حوالي 60 مركبا وتستقر كل مجموعة من بلدة واحدة في مكان معين، فنحن أبناء محافظة المنوفية نستقر أسفل كوبري عباس/ القريب من جامعة القاهرة. أما الصيادون عند مبنى الإذاعة والتلفزيون بميدان التحرير فهم من مناطق أخرى من الفيوم وغيرها، ويسكن الناحية الأخرى التي تواجهنا 20 مركبا سكانها من المنصورة، وأفراحنا تكون في مسقط رأسنا عندما تكون العروس من نفس المكان.
أما إن كانت العروس من القاهرة أو المناطق المحيطة بها فيتم عقد القران في أي جامع قريب، والفرح يكون على أي مركب سياحي حيث تظل الأضواء كما هي والأغاني وأهل العروسين والأصدقاء، وتتراص المراكب بجوار بعضها البعض لتكون عبارة عن مسرح كبير يلتف عليه جميع المشاركين في الفرح. أما ليلة «الدخلة» فتكون في مسقط رأسنا، وبعد ذلك تأتي العروس وزوجها ليواصلا الحياة على ظهر القارب والإنجاب وهكذا.

أبناء الصيادين


ويتدخل في الحديث عيد عبد الرازق (صياد)، فيقول: نحن متهمون بأننا نلوث النيل بل نصطاد بضمير بخلاف بعض الصيادين الآخرين الذين يستخدمون السم أو الكهرباء لاصطياد الأسماك كأن يعرف الصياد أن هناك أماكن معينة يتجمع بها السمك فيلقي فيها بكمية من السم وهو ما يؤدي إلى قتل الأسماك ثم بيعها.
وأيضا هناك من يستخدم الكهرباء عن طريق كيبل يمده من خارج النيل وهو ما يؤدي إلى نفوق الأسماك ومن ثم تظهر على سطح الماء ويأخذها بعد ذلك لبيعها، أو يضع «اللحوم المتعفنة» في أقفاص صيد بحيث يدخل السمك ليتغذى عليها ولا يستطيع الخروج منها.

وعن طبيعة معيشته وأسرته على المركب، تدخلت زوجته «حمدية» في الحديث قائلة: نحن متزوجان منذ سنين طويلة ولنا خمسة من الأبناء والبنات، وهؤلاء الأبناء يظلون معنا حتى يكبروا ونستطيع أن نشتري لكل ولد قاربا ليتم تجهيزه لهم حتى يتزوجوا فيها حيث نقوم بإعداد القارب وفرشه بالبطاطين، وتوفير مستلزمات العمل له هو وزوجته والتي غالبا ما تكون ابنة أحد الصيادين، ومنذ فترة قريبة زوجنا ابننا الكبير بعدما استقل بمركب وحده وهو بمثابة عش الزوجية أو الشقة، ونسعى الآن لتجهيز مركب آخر حتى يتسنى لابننا الثاني الاستقلال به والزواج فيه.

أما البنت فسيتم تزويجها لأحد أبناء الصيادين الذي يعرفنا ونعرفه جيدا، وتتم الولادة في المركب أيضاً، على يد إحدى الدايات، والتي تحضر خصيصاً إلى ظهر المركب للقيام بذلك، هذا في حالة إذا ما كانت الولادة سهلة وميسرة أما إن كانت متعثرة فتتم الولادة في إحدى المستشفيات القريبة.

أكلة سمك


أما سماح وهي طفلة تبلغ من العمر ثماني سنوات فحلمها بسيط وبريء مثلها ينحصر في التعليم وعندما سألتها وماذا تريدين غير أن تتعلمين؟ قالت: أن أعرف أن أقرأ وأكتب فقط. تعيش سماح مع أسرتها التي تتكون من أبيها وأمها وأخيها «جاد» وأختها «فاطمة» وهم لديهم مركبان صغيران أحدهما تنام به هي ووالداها والآخر يسكنه أخوتها.
كما أنهم بصدد شراء مركب ثالث؛ لأن مصدر دخلهم ينحصر في اصطياد السمك وبيعه بأحد الأسواق المتخصصة في تجارة السمك بمحافظة الجيزة، وقبل أن أتركها وأغادر المكان سألتني متى أعود مرة أخرى؟ فقلت لها: لماذا؟ فقالت: حتى «نعزمك على أكلة سمك قراميط» فما كان مني إلا أن ابتسمت لها وقلت قريبا أعود.
شاركه على جوجل بلس

عن صدام كمال الدين

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق