محمد ناجى: ما يحدث فى مصر حالة ثورية

يرفض اصطفاف المثقف خلف أى سلطة


محمد ناجى

وصفه البعض بساحر الرواية العربية ولكنه على المستوى الشخصى والانسانى أكثر سحرا فعندما تجلس إليه يسحرك ببساطته وخجله وضحكة الفلاح النابعة من القلب والتى تجعلك تأتنس له وتنسى أنك فى حضرة أديب بارز لتتناقش معه فى أمور الحياة كأنه صديقك المقرب،ففى مسكنه المشبع بالطراز الاسلامى وبين اللوحات الأصلية لأغلفة رواياته استقبلنا الروائى والشاعر محمد ناجى ليكون حوارنا معه .

ولد ناجى في مدينة سمنود عام 1947 وتخرج من كلية الآداب قسم الصحافة،والتحق بالخدمة العسكرية من 1969 إلى 1974، أي من حرب الاستنزاف إلى ما بعد حرب أكتوبر،وعمل لسنوات في الإعلام فكان مشرفاً على النشرة الثقافية في وكالة رويترز ووكالة أنباء وتلفزيون الإمارات كما انه أسس جريدة الأيام البحرينية،وله على التوالي روايات:خافية قمر،لحن الصباح،مقامات عربية،العايقة بنت الزين،رجل أبله وامرأة تافهة،الأفندي،ليلة سفر،تسابيح النسيان وهو نص بروح شعرية حسبما قال مؤلفه،وله تحت الطبع"قيس ونيللي" رواية . 



* كيف ترى المشهد الثقافى بعد الثورة ؟

المشهد الثقافى ليس منعزلا عما يدور من حوله وهو جزء من مشهد أكبر سياسى،اجتماعى ،واقتصادى،وماحدث فى مصر هو مجرد إنطلاق لحالة ثورية لم تنتج حتى الان انتاجا ثوريا ثابتا ومستقرا،ولكنها مجرد حالة اصلاح فى ظل النظام القديم حيث لم تتبلور بعد توجهات اجتماعية جديدة تنحاز لشرائح من المجتمع وتسبتعد شرائح اخرى ، كما أن هناك بلبلة وسكوت فى المشهد على مستوى الانجاز الثورى ، ويوجد فعلا حراك وحالة ثورية ومطالب متفجرة وجو صراعى وصدامى بين قوى وبعضها فى الشارع ولكن المشهد ما زال غير منبئ وكذلك المشهد الثقافى محكوم بالرؤية الأشمل،وبرأيى أن أى تغيير فى المشهد الثقافى وليس فى الانتاج الأدبى فقط لأن الثقافة ليست مجرد قصيدة أو رواية أو عرض مسرحى أو فيلم وإنما هى تفاعل جملة النخبة بما تمثله من اجتهادات تشريعية وسياسية فى كل مناحى الحياة ،ولكننا حتى الآن لم نصل بعد لرؤى متبلورة وإنما حالات تناقش وتنتقد فقط .

* كتبت ليلة سفر وفى جزء منها تدور عن علاقة الجارين المسلم والمسيحى ببعضهما البعض وتطورها . فى ظل الظروف الراهنة كيف ترى هذه العلاقة ؟

كان هناك فرصة مع إنطلاق الثورة عندما وقف المسيحى مع المسلم كتفا لكتف ضد فساد النظام وأقيمت في الميدان صلوات المسيحيين والمسلمين فى اطار وفاقى وواستطعنا وقتها أن نقفز فوق داء الفرقة الذى استشرى مؤخرا بين أبناء الوطن الواحد ،ولكنى لاحظت مؤخرا أن هناك بعض الانفلاتات التى تنبئ بعودة هذا الصراع واستمراره مرة أخرى،كما أن الاعلام يساهم به بشكل اخرق ، وما ذكرته فى ليلة سفر أن هذا المنزل الآيل للسقوط كرمـز للنظام السابق والذى هدد بسقوط الوطن بأكمله فى أى لحظة سيسقط على رؤس ساكنيه من أقباط ومسيحيين وأرجو أن يكون هذا حاضرا لدينا لأن كل كارثة ستحل بالوطن لن يدفع ثمنها المسلم لوحده أو المسيحى فقط وإنما الجميع سيدفع الثمن ،وهناك أصوات ضعيفة تدعو لصيغ وفاقية ولكن لا يسمعها أحد بسبب اشتعال الصراع بين الأحزاب والائتلافات الثورية التى شاركت فى الثورة من قوى دينية وغيرها وكأن الثورة أنجزت وآن الوقت للتنازع على ثمارها ،لذلك يجب أن ندرك أن الثورة لم تنجز حتى الآن ولم تحدث أى تغييرات جوهرية ولكن ثمة وعود ونقاشات وتصورات تقترح وقرارات تؤخذ بين حين وحين ولكنها لا ترسم صورة متكاملة لمنجز ثورى .

* وبرأيك أى الأشكال الأدبية أقدر على التعبير عن الثورة ؟

دعنا لا نحصر المسألة فى اطار الكتابة الأدبية فقط فأول ما يزدهر مع أى تغيير فى الوجدان العام هى الأغانى ولكنها حتى الآن ليست على المستوى المتوقع لها ، والتجلى الأكبر لهذا التغيير سيتضح بعد ذلك فى الرواية وليس فى غيرها من الأشكال ،ولكن كعادة كل الثورات ينتج بعدها أدب شعارات وهذا ما يخشى منه، فهناك من الأدباء من يراهن على أدب الشعارات أو يحاول أن ينسب إلى نفسه فضل قيام الثورة وفى هذا خطر لأن وظيفة الأدب أنه يسكن المساحة التى لم تتحق من الحلم فهو لا يتحدث عما أنجز وإلا تحول إلى أدب هتافات وتسويق شعارات ومهما كان المنجز تظل به أشياء تحتاج لأستكمال فالأدب الخلاق والحقيقى والدافع للمجتمع يسكن هذه المساحة .

* قيل عن تسابيح النسيان أنها نص بروح شعرية بينما ذكرت أنها نثر مشعور .فأيهما أقرب إليها ؟

أطلقت هذا التعبير والذى يحتوى على طرافة بسبب المعركة المثارة الآن على الساحة الأدبية بين قصيدة النثر والتفعيلة،وبرأيى أنه حوار عقيم جدا ويحتكم لأسباب شكلية فالذين يكتبون قصيدة النثر يكتبونها لأسباب شكلية دون أن ينشغلوا بجوهر الشعر،وهذه المعركة لم تنتج كثيرا من الأفكار لأنها لم تنتج أيضا على مستوى المنجز شعر له قيمة كثيرة فالقليل جدا منه هو الذى له قيمة على الجانبين فى مساحة خارج الشعر أيضا ، وأطلقت هذه التسمية حتى أتفادى التصميم على الرأى لأن الكاتب لا يستطيع أن يصنف نصه ولذلك على النقاد أن يسألوا ما هو الشعر وبناءا عليه يقيمون هل هو شعر أم نثر كما أننى لا أنظر للنثر نظرة دونية فالكتابة هى الكتابة ،ويمكن لجملة نثرية أن تكون أكثر قيمة من قصيدة بحالها،وليكن ما أكتبه نثرا أو شعرا فالمهم لدى أن تكون كتابة مبدعة تكاشف القارئ وتأخذه إلى حقائق وقضايا وتشابكات أسئلة .

* وهل نستطيع أن نعتبر تسابيح النسيان نوع من الحنين إلى الشعر ؟

باعتبار أننى كنت شاعرا بالأساس ستجدنى أخذت من الشعر فى لغة رواياتى إحكامه فى التعبير حيث الجملة الموجزة التى تفصح وتحرك الدراما دون أن تكون بها زوائد،وهناك بعض من رواياتى لا تستطيع أن تحذف منها كلمة لأنه لو حدث هذا يختل بنيانها،وهذا لا يتحقق إلا فى الشعر ،كما أننى أكتب وقتما تأتينى الكتابة وباللغة التى تحضرنى " وحسبما تملى على عفاريت الكتابة " ، وتسابيح النسيان لا أعتبرها حنين لأن روح الشعر تتجاوز مجرد شكلانيته، فلو أخذنا بعض المقاطع من أحد رواياتى وأعيدت كتابته بتقطيع شعرى سنكتشف أن هذا من الممكن أن يسمى شعرا عند البعض .

* وهل تنشغل بتقديم بنية مختلفة فى كل عمل أو بمعنى آخر هل لا تزال تبحث عن البنية المناسبة ؟

أننى أبحث عن بنية مناسبة فهناك تشابك شديد بين ما أريد أن أقوله والشكل الذى سأعبر به عنه ، وأحرص على البعد عن البنى القديمة لأننى لو استخدمت هذه البنى فيعنى ذلك أننى سأعيد انتاج نفس المضامين التى قلتها سابقا فالشكل وثيق الصلة جدا بمضمونه ،وفى أعمالى كل رواية لها شخصيتها حيث تتراوح بين الشرائح الهامشية والنخب،وزمنها أيضا ،وقضية مختلفة أنشغل بتقديمها كما فى ليلة سفر حيث التغيرات الاجتماعية التى صاحبت الانفتاح الاقتصادى،فكل عمل يفرض اللغة التى يكتب بها بحيث تتماهى مع لغة شخصياتها وتكويناتهم النفسية وأنساقهم المعرفية وذائقتهم الجمالية وهذا ينتج فى الاخر الخلطة التى أضعها فى الرواية،ولكن هذا لا يعنى أن هناك قطيعة بين رواية واخرى فأنا ضد أديب العمل الواحد والذى ينتج عملا واحدا ويعيد انتاجه فى عشرة أعمال بعد ذلك لأن هذا معناه أنه ذكر ما أراد قوله منذ أول عمل له ولا يضيف شئيا جديدا،ولأننى كنت معنى برصد تطورات المجتمع المصرى من زوايا مختلفة من القاع والقمة والنخب والمهمشين ومصابى الحروب المشوهين فأنتج هذا التنوع روايات مختلفة لكل منها بنية تميزها فعندما كتبت خافية قمر والتى اعتمدت فيها على شخص مصاب بمرض عقلى يناقش قضية المستقبل والماضى وعندما يكون بطل الرواية هو شخص مجنون لابد وأن تكتب بشكل يتناسب مع جو الرواية وبطلها الذى يستيقظ كل يوم ليمحو ما ذكره فى اليوم السابق ليقول سنحكى من أول وجديد ليثير أسئلة بدون اجابات وبنهايات مفتوحة لأنه لا يملك الاجابات ، وفى لحن الصباح سنجد تضادا حادا ما بين البطل الذى خرج من الحرب فاقد أعضائه والمجتمع يتعامل معه على أساس أنه نفاية ، وفنان يكتب اللوحات للجميع لأنه ليس لديه موقف فينتهى بأن ترتعش يداه ولا يستطيع أن يواصل الكتابة فهذا صراع بين نوعين من العجز ما بين عجز القدرة ممثلة فى المقاتل السابق،وعجز الارادة ما بين الفنان الذى ليس له موقف لينتهى هذا بأن يقتل أحدهما الاخر بسبب العجز الذى أنتجه المجتمع فقاد إلى كارثة فى النهاية .

* لجأت فى مقامات عربية إلى التاريخ . فهل يعد التاريخ هروبا من الواقع ؟

لم ألجأ إلى التاريخ فى مقامات عربية لأننى اختلقت التاريخ بها والمكان والشخصيات فهو ليس مدون أو منظور أو مكتوب كما لم أحدد له فترة زمنية محددة، وفى هذا التاريخ الوهمى وضعت مشاكل واقعنا وتاريخنا وأنظمتنا حيث القضايا المثارة فى هذه الرواية هى معادل موضوعى لواقعنا،فعلى سبيل المثال هناك سخرية من القضايا الفكرية التى كانت مطروحة أنذاك منذ ما يقرب من 12 عاما كفكرة ظل الأنثى هل هو أنثى مثلها أم مذكر،وهذا التاريخ مكننى من أن انتقد أطياف الواقع العربى بدأ من بناه السياسية القمعية وانتهاءا بانتاجه الفكرى الهزيل .

* وهل استخدمت الرمز لأنه مازال هناك محاذير فى مجتمعنا لا يستطيع الأديب الاقتراب منها ؟

وقت كتابة الرواية وبداية نشرها مسلسلة فى مجلة المصورعام 1996 كان هناك محاذير لا أستطيع الاقتراب منها،لذلك لجأت إلى هذه الفنتازيا المعادلة للواقع حتى أتخطى هذه المحاذير،وككاتب انشغل بما أريد قوله للقارئ دون عوائق لذلك لجأت إلى هذه الفنتازيا الساخرة حتى أستطيع فعل ذلك،وبها رصد مبكر لقضية التوريث فى مقامة حصان للولد وكيف يورث الولد التافه مقاليد شعب ويوصيه والده بكيفية حكمه،وكانت هذه المقامة انتقاد لقواعد الحكم،ولكن المعضلة فى ذلك الوقت هى كيف أفعل هذا ؟ لذلك لجأت إلى الفنتازيا وأن تدور أحداثها فى تاريخ وهمى،والقارئ وصلته هذه الرسالة،كما أن الدراسات النقدية التى تناولت الرواية رصدت هذا التوجه الفكرى الموجود بها .

* وبرأيك ما هى مسئولية الكاتب تجاه المجتمع ؟

طالما أمارس الكتابة فأنا اتحمل هذه المسئولية لأننى ضد من يقول أن الأدب هو مجرد تهويمات شكلية أو وجدانية،فأنا أكتب من أجل أن يقرأنى ولو شخص واحد فالقراءة والكتابة بالنسبة لى فعلين متلازمين،والقارئ مهم جدا لأنه هو الذى يعطى فاعلية للنص،ومن خلال هذا المنظور يجب على الكاتب أن تكون له مسئولية ما تجاه المجتمع،وقد يسكنه احساس تجاه الانسانية كلها لأنه عندما يناقش وقائع مجتمعه ينفذ إلى أفق أكثر رحابة وإنسانية فيناقش قضايا انسانية عامة ويرى انعكاساتها وانتكاستها على المجتمع الذى يحيا به،فعلى لسان بعض أشخاص رواياتى ذكرت أنه ليس المهم من يحكم ولكن من يسمع لأن الذى يسمع يعطى تأويلا وفاعلية للنص المكتوب .
                                                         

* وهذا يقودنا بالتالى إلى مسئولية المجتمع تجاه الكاتب ؟

إن تحدثنا عن المجتمع بشكله المطلق فمسئوليته أن يحمى حرية الكاتب ، ولكن لا يجب علينا أن نلتمس هذه الحرية من سلطة ثقافية،فالكاتب بالمعنى الذى أراه قويما يسكن المساحة المعارضة وخارج الجماعة لأنه محمل برؤى وغالبا ما يكون فى معسكر الرفض لا القبول لذلك لا ننتظر أن تحتضنه أجهزة السلطة،فحتى فى المجتمعات الأوربية ثمة حظوة لكتاب يروجون لسياسات السلطة الحاكمة ويتم إبعاد كتاب أكثر قيمة وأهمية نتيجة لمواقفهم المعارضة لهذه السلطة،كماركيز على سبيل المثال عندما قال موقفه الجرئ والشجاع والمبهر فى حرب الخليج حجبت عنه الأضواء ، لأن الأنساق الثقافية والإعلامية فى العالم منتبهة لخطورة الثقافة فيتم وضع الكاتب بداخل دائرة الضوء حسب توافقه مع السلطة،ويحجب عنه الضوء لو كان معارضا،ولأننى مصر أن أسكن هذه المساحة المعارضة للكذب والفساد لذلك لا أنتظر مكافأت من مؤسسات السلطة .

* أرى أنك تركز على الشخصيات فى معظم أعمالك أكثر من المكان فهل رهانك دائما يكون على الشخصيات ؟

يختلف هذا من عمل لأخر ، ففى ليلة سفر ثمة تركيز على المكان الذى يدور به الحدث كالبيت الذى أصابه الزلزال وأمتلأ بالشروخ،وفى رواية العايقة بنت الزين هناك اهتمام بالمكان،فالمسألة ليست صراعات أدبية أو كتابية لأننى أدخل للكتابة مدججا بكل الأسلحة وما هو متاح من بدائل جمالية استخدمه،وكل رواية تحدد مقادير " طبختها " كأن يكون هناك اهتمام بالمكان فى رواية أو بالشخصية فى اخرى ولكن لا يكون لى اهتمام مطلق بالمكان لدرجة أن اتلف الرواية وتوجهى بها،كما أننى لا أهتم بشخصية وأغرق فى وصف تفاصيلها التى لا تفيد حركة الدراما بداخل الرواية ، فعلى سبيل المثال شخصية عباس الأكتع فى رواية لحن الصباح لم أذكر أى من تفاصيل جسده كلون عينيه أو شعره أو غيرها من التفاصيل،وبرغم ذلك ظل حاضرا لأن هذه التفاصيل غير مفيدة لأن كل ما يهمنى هو أن هذا الشخص بطل خرج من الحرب مشوها ورغم ذلك يعامل من المجتمع كنفاية،وفى الأفندى اهتممت بلون عيون البطل لأن حركة الدراما كانت تفرض هذا .

* ولماذا لا تحاول أن تربط أحداث أعمالك بمكان ينتمى للواقع تبدأ منه الحكاية ففى العايقة بنت الزين كانت معظم الأماكن خيالية لا وجود لها ؟

لأننى أصنع واقع روائى يطابق نصى فى المكان ولا أهتم بواقعية المكان أو وقائعية الزمان .

* وهل تؤيد انحياز الكاتب للخيال حتى ولو كان على حساب الواقع ؟

بالتأكيد الخيال أحد أدوات الكتابة لذلك علينا أن نحدد ما هو هذا الخيال فإن كان مريضا ففى هذه الحالة نحن أمام منتج خيالى ليس له قيمة،لأن الخيال الابداعى ليس منفصلا عن الواقع فهو يحميه وقد يفسره أيضا،وعلينا أن ندرك أن أساس الكتابة افتراض خيالى حتى وان استعنت بالواقع وأشرت اليه،فتفصيل هذا العمل ليست موجودة فى الواقع لأننى لا أسجل أحداث أو يوميات ولا أستعين بالفوتوغرافيا ووقائع الزمان،ولكننى مهما امعنت فى الخيال الإبداعى وليس المريض فأنا محكوم بالواقع .

* نشرت أولى رواياتك فى منتصف التسعينات فهل نستطيع أن نتعبر أن مشروعك الأدبى كانت هذه بداياته وإن لم تكن كذلك فما الذى أجله كل هذا الوقت ؟

بدأت شاعرا منذ فترة السبعينات ونشرت فى مجلة المجلة برئاسة يحيى حقى ،وفى الثقافة الجديدة ،الأقلام العراقية ، والأداب البيروتية ،وفى ذلك الوقت كنت أتأمل قصيدتنا العربية والتى ميراثها كان فى أغلبه غنائى حتى مع الثورات الشكلية كانت تقتضى انحيازا عاطفيا مسبقا من الشاعر لتصبح القضايا واضحة أمامه وهذا لم تفعله سوى القصيدة التى استطاعت أن تستمر كقصيدة محمود درويش والتى تنتمى للمقاومة لأن بها انحياز عاطفى واضح بينما المشروع الشعرى لأحمد عبد المعطى حجازى والذى كان يدور فى مساحة أخرى جف رويدا رويدا لأنه لا يوجد به انحياز عاطفى واضح،والقصيدة الأدونسية استمرت لأنها استطاعت أن تطرح الأسئلة المتشابكة فقط وتفارق الشاعرية أحيانا،ووجدت أن الرواية تتسع للأسئلة العديدة التى كانت تراودنى لأن بها شخصيات مختلفة الانتماءات والجذور والتوجهات والانحيازات فأستطيع أن أجرى حوارا بين هذا وذاك وأن أقلب القضية وأراها بكل وضوح ومن هنا كانت الرواية بالنسبة لى خيارا ،وقبل اتجاهى للرواية لجأت للمسرح ولدى مسرحية شعرية اسمها ليلة الملك ولكنى اكتشفت أن المسرح عملية معقدة جدا وليس مجرد نصا لأن وظيفته الحقيقية أن يكون انعكاسا لحالة حوار موجودة فى المجتمع فالكاتب يكتب نصا يقدمه المخرج بطريقة سمعية وبصرية على خشبة المسرح ليصبح حوارا بين المسرح والجمهور والذى من المفترض أن يكون من النخبة التى ستنقل هذا الحوار الى الأخرين،والمجتمع فى ذلك الوقت كانت قنوات استقباله مسدودة ومعطيات العملية ليست فى يد الكاتب لذلك أصبحت هذه تجربتى الوحيدة فى المسرح وحتى الان لم أنشرها .

* بعض الأدباء يرى أن الكتابة تمرد . ما رأيك ؟

الرواية تمرد لأن الكاتب لا يكتب إلا إن كان هناك ما يدفعه لذلك،فاذا كان الكاتب يهتف لسلطة ما فهو مجرد " هتيف " ليس أكثر ولا ينتج إبداعا ليصبح مكملا غذائيا لاتجاهات سياسية،أما المبدع الحقيقى فيكتب لأنه لديه ما يريد أن يقوله وغالبا ما يكون معارضا لما تتبناه الجماعة والسلطة ،ولا يعنى التمرد العصيان أو كره الناس وانما ينطوى بداخله على محبة،لأن ما أكتبه أنا على أتم الاستعداد أن أموت من أجله،فالكتابة تمرد محب .

* ولماذا لا تنشر ما تكتبه من شعر ؟

أحيانا يراودنى هذا وأتمنى أن أنشره قريبا ولو على سبيل التوثيق لمسيرتى ولكن دائما هناك ما يشغلنى ككتابة رواية جديدة،كما أحس بمحدودية العمر فأسابق الوقت .

* اهتممت بقضايا الجسد ولكنك لم تغرق فيها مثلما يفعل العديد من كتاب التسعينات .لماذا ؟

يعود هذا إلى اهتمام الكاتب وأفقه الفكرى والثقافى وانحيازاته المجتمعية ورغم ذلك لا أنزعج من كتابات الجسد الشائعة،لأن هذا كان نوع من الاستعراء الاحتجاجى على أوضاع قمعية سائدة فعندما يكون الوطن والمبدع والمواطن جميعا مقموعون يلجأ الأديب فى هذه الحالة إلى الاهتمام بجسده لأنه يصبح هو المساحة الوحيدة التى يمتلكها فى،وخلال تعاملى مع قضايا الجسد أرى أن الانسان كل متجانس فهو يحتوى على الغريزة أو الجنس،أحلام،أوهام،وعلاقات أخرى،فأنا معنى برصد الانسان فى دوائره المتكاملة لأننى لا أستطيع أن الخصه فى قضايا جسده وطعامه فقط فأنفذ بذلك الى الواقعية الاشتراكية،ولكنى أهتم به بدء من أحلامه وأوهامه وتخبطاته ونسقه الفكرى والثقافى وانتهاء بغريزت ووضعه الاجتماعى .

* ليلة سفر انتهت بسفر الحفيد وإمتلاء البيت بالشروخ وانتصار المالك الجديد له . فهل كانت هذه رؤيتك للواقع أنذاك ؟

بيت أحاط به سوق ويسكنه مسيحية ومسلم ومهدد بالسقوط عليهما وولد يبحث عن مستقبل له ولا يتبين ملامحه كان هذا الواقع المتبلور أمامنا قبل ثورة 25 يناير أو قبل الحالة الثورية كما أفضل أن أسميها،وسفر الحفيد هو مبادرة لمغادرة هذا المسكن الذى ملأته الشقوق ويعبر أيضا عن انقطاع التواصل بين الأجيال حيث جيل يتملكه الحنين للتمسك بهذا البنيان برغم أنه آيل للسقوط وجيل أخر يبحث عن أفق غير واضح فربما يكون مسافرا لتيه وعذابات جديدة وغربة قد تكون أكثر وطأة من بقاءه فى وطنه فالواقع يترك بصماته على الكاتب .

* ولماذا اهتممت فى ليلة سفر بذكر أحداث واقعية وتاريخية فى نفس الوقت بعكس أعمالك الأخرى ؟

لأن كل عمل يفرض نفسه فأنا أتحدث عن بيت له تاريخ،وواقعية هذا التاريخ السياسية مصاحبة لهذا البيت،فالجد والعانس المسيحية هم نتاج له والمأزق هو نتيجة حتمية لمسار سياسى وتاريخى حكم البلد .

* وهل الأديب أثناء مرضه يصبح أكثر روحانية فى كتاباته ؟

إذا كان معنى الروحانية أنه أكثر اخلاصا وصدقا مع القضايا الذهنية واحساسه بالعالم فنعم لأنه لم تنتج كتابة لها قيمة إلا على أرضية الصدق والقلق المنحازة لقيم جميلة،والمرض يدخل الكاتب فى مأزقه الشخصى كفرد فى مواجهة كون حكم عليه فى النهاية بالاعدام،ويصاحبه شجن ينمى احساسه بأن هذه الحياة هى فرصة نادرة نحسها وتوشك أن تنسحب من بين أيدينا وعلينا أن نترك بصمة فيها وأن نقول بأقصى درجات الصدق ما نريد أن نقوله .

* رواية الأفندى كتبت فى التسعينات وتتحدث عن الانفتاح فى السبعينات فهل هى كتابة بأثر رجعى أم أنها واقع فعلى مازلنا نعيشه ؟

وقت كتابتها كانت واقع ما زلنا نعيشه فتداعيات الانفتاح موجودة تتمثل فى التسيب الضارب بجذوره فى عالم رجال الأعمال فهى كانت ملامسة للحظة الراهنة لكتابتها وفى نفس الوقت تتأمل جذورها فبطل الرواية مولود عام 1952 مع الثورة المصرية وعاش الانكسارات التى حدثت والطموح الناصرى العظيم ثم الانفتاح .

* فى مقامات عربية اهتممت بالأسطورة والتراث الشعبى فهل ترى أنها مكون أساسى فى وجدان الكاتب ؟

دعنى أصحح جزء من السؤال وهو الخاص بالأسطورة والتراث الشعبى فأن لا أحاذى أسطورة أو تراث شعبى بعينه لأننى أصنع أسطورتى الخاصة بكتابتى،وبرأيى أن التراث المدون لم يحفظ جيدا الوجدان والذاكرة المصرية والتى نجدها محفوظة جيدا فى النصوص الشعبية كالأغانى التى كانت متداولة حتى وقت قريب،وفى الحكم والأمثال،والسير الشعبية العملاقة التى أرى أن بعضها يفوق فى قيمته ملاحم عالمية كبيرة فعندما كسيرة الظاهر بيبرس والتى يمكن وضعها بجوار الشهنامة الفارسية وربما تفوقها أيضا،فالوجدان المصرى عبر عن نفسه فى الفن الشعبى بصراحة وبمكر حميد ، فنجد العاشق فى الأغانى الشعبية يتحدث عن النعناع ونباتات مصرية بينما ظلت القصيدة الفصحى حتى وقت محمود حسن اسماعيل خيالها بدوى تتحدث عن شقائق النعمان وزهرة الجلنار" الرمان " لذلك لم تكن تشكل انعكاسا للواقع، فحسن اسماعيل برأيى هو الرائد وأول من بدأ بتمصير القصيدة الشعرية وتلاه بعد ذلك بخطوات عديدة الراحل العظيم الذى لم يأخذ حقه عفيفى مطر،أما درجة تماس كتاباتى مع الفن الشعبى المصرى فأعتبره من مفاتيح فهم هذا الوجدان،ولكننى لا أحاذى أسطورة أو سيرة شعبية أو نص أدبى لأن هذا معناه أن أعيد اجترار نفس ما قيل، والمهم أن نوظف هذا الخيال الشعبى فى انتاج نص حديث يحاول أن يرصد واقع الرواية العالمية فى أعلى قممها .

* وما رأيك فى لقب ساحر الرواية العربية الذى أطلق عليك ؟

علاء الديب أكرمنى بتعبيرين جميلين هما ساحر الرواية العربية وشاعر الرواية العربية،وهو أول من كتب عنى بعد صدور روايتى خافية قمر بيوم واحد فى مجلة صباح الخير،وساحر ربما لأنه يرى أننى أصنع غموض غير مستعصى،أو أجواء سحرية بداخل أعمالى .

* وما الجديد لديك الآن ؟

انتهيت من كتابة رواية اسمها قيس ونيللى ونشرت فصل منها وسأدفع بها للناشر بسرعة وأعكف على كتابة نص شبه شعرى اسمه الحدائق المهجورة وهو تطريزة أخرى بعد تسابيح النسيان فى تأمل المحنة الشخصية واخترت له شكل أقرب للشعر ربما لأنه أكثر ذاتية فهو يحمل الهم الوجودى من خلال ذات مريضة وفى لحظة سفر وهنا يوجد انحياز عاطفى للانسان الفانى بكل جبروته ينتهى فى الآخر إلى حفنة رماد .


صدام كمال الدين
17 سبتمبر 2011
شاركه على جوجل بلس

عن صدام كمال الدين

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق