الشاعرة المغربية رشيدة الدبيش: أتمنى أن يصبح الشعر ظاهرة كونية



صدام كمال الدين

ترى الشاعرة المغربية رشيدة الدبيش أن الشعر هو ذاك الإحساس المتفجر ضد كل ماهو مطموس فينا ودفين ومغيب، ومقموع ، هو القدرة عن التعبير على الهشاشة والجرح ،التناقض والفرح ، بطريقة راقية مهذبة لا تخدش الحياء ترتقي بالنفس وتعلو بالوجدان .


للدبيش ديوان حلم منتظر ، والذى ستتم ترجمته إلى الإنجليزية والفرنسية ، ولها العديد من الدواوين والكتب تحت الطبع ، ونشرت لها العديد من المجلات والمواقع الثقافية كجريدة الأهرام المصرية وغيرها .


* ماذا عن بداياتك الشعرية ؟

ثمة موهبة شعرية على الفطرة ولدت معي بسن مبكرة جدا، تعود إلى سنوات طفولتي الأولى ، حيث كتبت ساعتها الخواطر والشذرات ، على شاكلة بوح غض بريء نابع من أحاسيس لم يشوش عليها الإدراك ولا المعرفة بالأمور التي تناقض الإلهام والفطرة ، والكشف وتعكر صفاء الروح والعاطفة والإحساس ، هكذا جاءت البدايات خجلى ومستترة ، إذ ترعرعت ببيئة محدودة ، محافظة ، وضاغطة ، فكان الشعر الوسيلة الأمثل والأبهى للتعبير وقتها عن ذاتي وانفعالاتي وتحرير إحساسي من كل المشاعر التي كانت تعيقه وتربكه .

كتبت القصة ، الخاطرة والمقال ،عشقت الرسالة الأدبية ، لكن بعد ذلك وجدت نفسي أنحاز وبقوة للشعر ، مع الوقت وبحكم ظروف عملي أصبح ضغط العمل يغتال صفائي ، فلم أعد أملك تلك المساحة التي تجعلني على قيد الإبداع بالطريقة التي كنت أحلم بها وأتوقعها ، أما السرد والكتابات النثرية فتحتاج إلى مجهود خاص وكبير، فالشخصيات بالعمل متعددة تحتاج إلى العديد من الأفكار والخلفيات والخوض في التفاصيل، إضافة إلى خلفيتك الجاهزة والتي تمررها عبر ما هو مجتمعي وعقائدي وأحيانا سياسي، كل ذلك من أجل بناء عوامل العمل وأبعاده في حين أن التعبير في الشعر أو القصيدة كلاسيكية كانت أو معاصرة ينبني فقط على التكثيف ، والإيحاء والقول الخاطف ، والإشارة الغامضة المرمزة .

الشعر كان هو المنتصر لي، أو بالأحرى هو الذي اختارني وقادني لعوالمه وانحاز إلى صميم ذاتي وماهيتي الجانحة للتعليق، والرهافة والرقة الوجدانية ، خضم تخيلي يتجسد فيه البوح والانصهار، واحتجاج يصدر عن أقاصي الروح يغوص في الذات والآخر بكل تجلياته المدركة للكون والواقع والوجود .

* في زمن الرواية يعيش الشعراء على هامش المشهد الثقافي كيف ترى ذلك ؟

للأسف الشديد إن هذا صحيح إلى حد كبير، ويدعو للقلق ويجب أن نعترف بأن الكلمة الأولى أصبحت للإعلام والاقتصاد، وأن المال والعولمة هما اللذان يوجهان خريطة التجارة الثقافية ، وبصراحة أكثر أصبح الشاعر والمبدع على حد سواء يعيشان مرحلة تراجع وتقهقر مقارنة مع ما كان يعيش عليه بالمجتمع العربي قديما .

فحين كان الشعر هو عنوان النهضة والتحديث ، إذ كانت الثقافة العربية ثقافة شعرية بالأساس ، وكان العرب هم أمة الشعر، وكان ضرورة وجود للذاكرة الجماعية واللغة العربية التي تستمد طاقتها الداخلية من الشعر وتتجدد بتجدده .

* وهل حقيقة أننا الآن نعيش فى زمن الرواية ؟

إننا فعلا نعيش في زمن الرواية ، فالرواية هي ديوان العرب اليوم ، على حد رأي أحد النقاد العرب ، الشعر أصبح على الهامش بتراجع الإقبال على الأمسيات الشعرية ،وأيضا ندرتها من جهة أخرى وعدم إقبال دور النشر على طباعة دواوين للشعراء ، ومحدودية النسخ المطبوعة بدعوى أنها لا توزع ، والأكثر من ذلك أن الصحافة والإعلام لم يعودا يهتمان ولا يحتفلان بالقصيدة وبالشعر كالسابق ، إذ أن التاريخ الطويل العريض للشعر أصبح في طريقه للمتاحف بكل أسف .

* ولكن هل يختلف ما يقدمه لنا الشعر عما تقدمه الألوان الأدبية الأخرى ؟

يجب الاعتراف بأن ما يقدمه لنا الشعر لا يمكن أن تعوضه لا الرواية ، ولا المسلسلات ، ولا الأفلام بأي حال من الأحوال ، فلولا وجود الشعر لانقرضت اللغة ، إذ لا يمكن للغة أن تبقى حية نابضة متدفقة خصبة بدون وجود شعر يواكب حياتها واستمراريتها فحين تنطفئ جذوة الشعر وشعلته تنطفئ اللغة .

فالشعر مضاد لزمن العولمة والحداثة ، اللذان يهددان اللغة بالزوال والانهيار والانقراض فحين تموت اللغة ستموت الثقافة والحضارة وبالتالي ستموت الحياة .

* هل هناك بالفعل إشكالية بين المغرب والشرق من حيث أن البعض يرفع لافتات القطيعة ؟

هذا الرأي وإن كان صحيحا ، لا يمكن له أن يصمد أمام منطق الحركة الموضوعية والتاريخية التي عرفتها التجربة الشعرية وبعدها الإبداعي ولإستمراريتها .

ويؤسفني أيضا أننا ما زلنا نفكر بهذه الطريقة ونرفع مثل هذه اللافتات وندعو للقطيعة ، يؤسفني أكثر واقع التفرقة والتشتت الذي تعيشه الأمة العربية وبعدها عن الاتحاد والاتفاق على مستويات عديدة .

* برأيك ما مدى تأثير الثقافة المشرقية على المغربية ؟

بدون شك أن التاريخ لا يمكن أن يتجاهل مدى تأثير الثقافة المشرقية ، وما حظيت به من تقدم ثقافي وإبداعي وأدبي وفني على الإبداع بالمغرب وعلى المعرفة بشكل عام .

هذا الأثير والتفاعل المشروع والمطلوب كان ضرورة حتمية ، فلا يمكن لأي شاعر مغربي أن يكتب القصيدة العربية دون أن يكون قد انفتح ونهل من آداب وأشعار الأسلاف منذ العصر الجاهلي إلى حدود الساعة ، فحتمية التطور تفرض تفاعل الشاعر مع كل الحضارات والإبداعات بالعالم ليس مع الشرق فحسب .

* هل هناك اختلاف بين القصيدة المغربية والمشرقية ؟

بالطبع ،هناك تباين واختلاف جلي بين القصيدة المغربية ،والمشرقية ، من حيث اللغة والرؤى والخصوصية، مرد ذلك لأسباب تاريخية وجغرافية وحضارية ، لكن مع ذلك فكرة القطيعة تظل فكرة غير منطقية وغير موضوعية ، لأن المنطلق الفكري والنظرة الوجودية للشعر العربي مرتبط ومتلاحم أشد التلاحم ، ومتشابه في التكوين والخلق والمزاج ، وهو وليد أدب عربي وحضارة عربية ، بل الأكثر من ذلك أن الإبداع أصبح ظاهرة كونية متبادلة بين كل الثقافات وبين كل الشعوب وبين كل الدول .

* عندما يعلق شاعر كبير بحجم سعدي يوسف بأنه لا يوجد شعر في المغرب وأن الشعر المغربي لا يقدم شيء كيف ترى هذه التصريحات كونك شاعرة ؟

الجواب على هذا السؤال أطول من أن أرد عليه ببعض الأسطر، لا تناول بالعرض أمجاد الشعر المغربي وتاريخه ودوره وقدرته على الحداثة ومسايرة التطور الذي عرفته القصيدة العربية بشكل عام ، ولا مجال أيضا لاستعراض أسماء شعراءنا المغاربة الرواد في هذا الباب.

لكن يجب التأكيد على أنه بالرجوع لتاريخ الشعر بالمغرب والوقوف على محطاته وروافده ، سيتضح بدون أدنى شك أن الشعر بالمغرب تبوء مكانة كبيرة من حيث البيان والبراعة والابتكار ، وذلك منذ محطته الأولى في بداية العشرينات، مرورا بالمحطة الثانية في فترة الثلاثينات –أحيل هنا إلى كتاب عبد الله كنون"النبوغ" الصادر سنة 1938 ، الذي يتطرق فيه المؤلف لقيمة الأدب والشعر المغربي منذ فجر التاريخ إلى العصر الحديث ، إيمانا منه بشخصية الشاعر المغربي وقدرته على الخلق والإبداع وإذكاء المشاعر .

أيضا ظهور الحركات والكتابات النقدية ، ابن ثابت وعبد السلام العلوي وغيرهم ، التي ظهرت في فترة الأربعينات لعبت دورا كبيرا في أن تستمر الحركة الإبداعية الشعرية إلى حدود الخمسينات ، بداية الستينات سوف تشهد القصيدة المغربية قفزة نوعية ، وكان ذلك مرتبطا بتطور الإنسان المغربي وانفتاحه اجتماعيا وسياسيا وأدبيا .

وجدير بالإشارة أيضا أن الدواوين الشعرية بالمغرب احتضنت وعبرت عن تلوينات ثقافية متعددة أمازيغية ،عربية ، فرنسية ، اسبانية وغيرها ، بحكم موقعها الجغرافي وانفتاحها على دول أوربية كفرنسا وأسبانيا.

أعتقد أننا نعيش تراجعا وتقهقر كأمة عربية على مستوى الشعر خاصة ، والابداع عامة ، فمنذ وقت طويل لم يأت شاعر ولا مفكر بحجم وقوة الشعراء والمفكرين القدامى .

* وكيف ترى مشروعك ومنجزك الإبداعي وأنت على أولى عتبات الطريق إلى الإبداع ؟

الشعر بالمغرب يعيش مرحلة التجديد والتي لا زالت مستمرة ومستمدة، هذا التحول يواكب حركة وعي الإنسان المغربي ، ويخضع لرؤية معينة نحو الحياة ، ولقد أصبحنا أمام وعي جديد يؤمن بفعالية الأدب والفنون ورسالة الشعراء والشعر في رفع شأن الأمة ، الشعر كما يقول أحد النقاد في هذه المرحلة "صورة صادقة لخلصات نفسه وأمل أمته ، وينطق بالصواب الذي لا يتطرق إليه الزيف والكذب ولا المبالغة ولا يفسده الغموض والإبهام".

هناك أفكار متقدمة ومشاريع فعالة نادى بها شعراء رواد بالمغرب ، آمنوا بضرورة خلق تقاليد ثقافية جديدة لتمديد الوعي الثقافي لدى المغاربة.ونادوا أيضا بضرورة إيصال صوت القصيدة المغربية إلى العالمية، ومد جسور التواصل مع مختلف الثقافات الأخرى وتحقيق مكانة تستحقها، حتى تخرج من العزلة والتهميش .

من خلال مشروعي ومنجزي الإبداعي المتواضع ، أضم صوتي إلى تلك الأصوات وأحلم بقصيدة مغربية قادرة على الخلق والتفرد والتميز ، لذلك فإن مشروعي منتفح على اللانهاية ، جزء من تكويني ، ومن تفاصيل حياتي اليومية .
هو مرآة للحساسية وللجمال وللأخلاق الجمالية ، تحقق للجوهر وللماهية المفطورة على الحب ، الشعر هو ذاك الإحساس المتفجر ضد كل ماهو مطموس فينا ودفين ومغيب، ومقموع ، هو القدرة عن التعبير على الهشاشة والجرح ،التناقض والفرح ، بطريقة راقية مهذبة لا تخدش الحياء ترتقي بالنفس وتعلو بالوجدان.

لذلك فإن الشعر بالنسبة لي هو حقي المشاع في الشمس والهواء والضوء والماء ، القصيدة ليست تجسيدا لتحرر اللغة وحدها ، وإنما هي تجسيد لتحرر الواقع والإنسان ، لا يقدر شاعر أن يخلق قصيدة عظيمة إلا إذا كان قادرا على مجابهة الحياة ، الشعر يعني أن أكون الحرية .

أتمنى أن يصل الشعر ليقرأ في كل بقاع الدنيا ، وأن يصير ظاهرة كونية وصالح لكل الثقافات والمجتمعات وأن يتخطى كل حواجز العصبية والإقليمية ، والمجتمعية ، والعقائدية الضاغطة .
شاركه على جوجل بلس

عن صدام كمال الدين

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق