صدام كمال الدين
قاهرة الألف عام ، تلك المدينة التى لم تفتقر يوما إلى حياة سياسية نشطة ومقاومة تمثلت على طول حلقات الحركة الوطنية فى مصر ، فيما لا يغفل هذا بالطبع دور الأقاليم ، وهو أمر عاينه جمال حمدان حين رأى فى هذه المدينة عنق الزجاجة ،عنق مصر، فهى من الناحية الهندسية البحتة مركز الثقل الطبيعى ، ومن الناحية الميكانيكية نقطة الإرتكاز ومن الناحية الحيوية نقطة التبلور ، ومن الناحية الوظيفية ضابط الإيقاع بين كفتى مصر .
هذا ما جاء بكتاب " إنتفاضات أم ثورات فى تاريخ مصر الحديث " لمؤلفه الدكتور محمد حافظ دياب،والذى على ضوء ثورة 25 يناير يحاول توضيح هل ما حدث فى مصر الحديثة منذ مقاومة المصريين للغزو الفرنسى وحتى الآن ، ثورات أم مجرد انتفاضات؟ .
ففى الفصل الأول "مصر وأطياف الثورة " يوضح معنى الثورة بسبب تداخله مع مفاهيم أخرى تتشابك وتتفارد خلفياتها،فكلمة ثورة كانت فى الأصل مصطلحا فكريا وتعنى الحركة الإعتيادية الدائرية المتكررة للنجوم ، واستخدمت الكلمة لأول مرة فى المعجم الإنجليزى عام 1960، وتحولت دلالتها إلى تلك الحركات التى تستهدف تغييرا إجتماعيا راديكاليا،كالثورة الفرنسية التى شكلت أول ثورة شعبية ديمقراطية ، وبجانب مفهوم الثورة هناك مفاهيم أخرى تداخلت معها منها الإنقلاب ، الانتفاضة،التمرد ، الفتنة أو الهوجة ، والهبَة .
ويعد الانقلاب عملية منظمة لقلب نظام الحكم بالقوة لاستبدال سلطة بأخرى،ويقوم به فى العادة فصيل من المؤسسة العسكرية ، ويظهر حين تستنفذ مرحلة ما إمكاناتها،وقد يكون دمويا إذا وجد مقاومة ، ولكنه فى كل الأحول يبقى على العلاقات الإنتاجية السائدة ، أما الانتفاضة فهى شكل جنينى للثورة ، وتعتمد على القوة الجماهيرية حين تصل معاناتها إلى درجة لا يمكن تقبلها،وتستهدف التأثير على السياسات الحكومية ، أما التمرد فهو عملية جماعية تقوم على الاحتجاج والعصيات وتتخذ شكل الاضراب والاعتصام والتظاهر وتتسم بالطبيعة العفوية والتراوح بين القوة الناعمة والخشنة وعدم تراكم الخبرة أو الوعى وتوجه غالبا كتعبير عن مصالح فئوية،والفتنة تعبر عن الاختلاف والصراع الدينى أو المذهبى ، وقد يصل إلى الحرب الأهلية والتنازع الطائفى بما يهدد وحدة الجماعة ، أما الهبَة فممارسة عفوية ضد الظلم .
وفى الفصل الثانى " مقاومة الغزو الفرنسى "يرى المؤلف أن الغزو الفرنسى على مصر عام 1798 مثل مفتتح الغزوات الاستعمارية على الأراضى العربية،فمعاينة آثار هذا الغزو تمثل أحد الإنشقاقات المشوهة التى نتج عنها إنقسام النخبة المثقفة حول دور الغزو الفرنسى فى التأريخ لبدأ نهضة مصر فمنهم من رأى أن هذه الحملة صدمة حضارية للمصريين ، ومنهم من أكد على وجود إرهاصات داخلية ملموسة لنهضة مصرية قبل قدوم الحملة .
ووفقا لهذا التباين اللافت حول دور الحملة الفرنسية اختزل الموقف بين مع أو ضد بين النظر إلى هذه الحملة كبداية نهضة،أو اعتبارها مقاومة مستمرة للاستعمار ، وربما لهذا هناك من أمسك العصا من الوسط ،فرأى بأن النهضة فى مصر بدأت بفعل العامل الخارجى ، ضاربا المثل بنفس ما أحدثه قدوم بونابرت إلى إيطاليا وروسيا وألمانيا ، التى يؤرخ لنهضتها الحديثة بهذا القدوم ، وفى حالة مصر،فإن هذا العامل الخارجى وقع على تربة خصبة،هى الارهاصات القائمة مما أدى إلى نموها .
وفى الفصل الثالث "ملحمة رشيد 1807 " نجد أن الحملة الفرنسية أسفرت عن لفت أنظار الدول الأوربية إلى أهمية مركز مصر وموقعها الاستراتيجى،وكرست مقاومتها لها ما عرف بعد ذلك بالنضال الوطنى ضد المحتل ،وبدء تبلور مفهوم الأمة وولادة قيادة شعبية مصرية جديدة داخل المجال المجتمعى العام ،تمثلت بالكتلة الشعبية التى قادها نقيب الأشراف السيد عمر مكرم .
أما فى الفصل الرابع " الجهادية والوطنيون 1881 " فنرى أن معركة رشيد أكدت لمحمد على عبقرية المكان المصرى ومعنى الشعبية المصرية الطالعة فانصرف بعدها لترتيب البيت من الداخل حيث جرى إخراج القوة المملوكية من معادلة السلطة بتدبيره لمذبحة القلعة عام 1811 وإلغاء نظام الالتزام عام 1813 والاستيلاء على كل الأراضى الزراعية وحرمان الأشراف كبار الملاك القدامى من ممتلاكاتهم ونفوذهم وتنظيم الطرق الصوفية بتعيينه المسئولين عن " السجاجيد الباهرة " وضرب تنظيمات الطوائف الحرفية لكى يعمل أعضاؤها فى مصانعه وتقنين وصايته على مصدر شرعيته:الأزهر حين قام بتعيين الشيخ محمد الشنوانى شيخا بعد وفاة الشيخ الشرقاوى خلافا لما أجمع عليه العلماء بترشيح محمد المهدى،ومصادرته أموال الشيخ السادات وتهديد أرملته بإغراقها فى النيل والتخلص من الزعامة الشعبية التى مثلها عمر مكرم بنفيه .
ومع تزايد اضطراب نضوج الوعى الوطنى جليا مع تصاعد انتشار التعليم ،الصحف الرسمية والشعبية،وتكون الجمعيات السرية والعلنية ومعها حصيلة التجارب البرلمانية الأولى التى أتاحت للمصريين فرصة مناقشة أحوالهم أواخر عهد اسماعيل لتخلق نخبة جديدة من ضباط الجيش وملاك الأراضى والمثقفين وموظفى الحكومة،بدأت تدعو إلى الوقوف ضد الخديو والأجانب .
كانت البداية عام 1876 حين تكونت جمعية سرية باسم مصر الفتاة أشرف عليها جمال الدين الأفغانى ورأسها على الروبى وأنضم إليها من العسكريين أحمد عرابى وعلى فهمى واستهدفت ضرب السيطرة التركية وتحسين وضع المصريين فى الجيش وإشاعة جو من الحريات العامة ومثلت نواة لأول حزب سياسى فى مصر .
الفصل الخامس " ثورة كل المصريين 1919 " ،وعقب هزيمة الثورة العرابية عاشت مصر وطأت احتلال لم يتوقف عند كونه مجرد واقع وجودى استعمارى،بل امتد ليشمل مناهج وطرائق جديدة لسلطته اعتمدت على نوع جديد من السيطرة والضبط كإطار يمكنه من تنظيم وتيسير مصالحه .
وتعتبر ثورة 1919 أول ثورة وطنية فى العالم تنفجر بعد الحرب العالمية الأولى وأول حدث جمع المصريين على اختلاف عقائدهم ومذاهبم وأجيالهم،وأقرب وأجل الأحداث إلى قلوبهم حيث بدت وكأنها ترد الاعتبار إلى أحمد عرابى فى شخص سعد زغلول .
الفصل السادس "إنتفاضة الطلبة 1935 " وكلنا يعرف أن دور الحركة الطلابية يكون الأكثر بروزا على الصعيد الوطنى،وبخاصة عبر لحظتين:عندما تصبح قضية الاستقلال أو القضية الوطنية بمعناها الشامل هى القضية المركزية فى الحياة السياسية ومحل إجماع القوى الوطنية ،أو حين تغيب القوى السياسية أو تعانى من ضعف يعوقها عن ممارسة أدوارها بكفاءة فتصبح الحركة الطلابية بمثابة المعبر عن آمال واهداف وتشوفات المجتمع .
ورغم أن الحركة الطلابية فى مصر قد عرفت قبل انتفاضتها عام 1935 فعاليات متواترة فإنه عادة ما يشار إلى هذه الانتفاضة بإعتبارها من أهم ما قدمته هذه الحركة حيث لعبت دورا بارزا فى تحريك الشارع السياسى ضد ممارسات الاحتلال واتفاقية صدقى – بيفن ومشروع تحالف الشرق الأوسط،ففى عام 1935 ساد التوتر مع تولى توفيق نسيم الوزارة التى أعلنت عن نيتها إعادة دستور 1923 الذى ألغاه إسماعيل صدقى وأستبدله بدستور 1930 ،غير أن وزارة نسيم لم تحسم نيتها وتزامن ذلك مع غزو ايطاليا للحبشة وخشى المصريون أن تزج بريطانيا ببلادهم فى عمل عسكرى ضد ايطاليا وفى هذا الجو المشحون ألقى وزير الخارجية البريطانى " سير صمويل هور" بيانا أعلن فيه عدم ملاءمة دستور 1923 للبلاد مما أدى إلى إدلاع مظاهرات لم تقتصر على العاصمة بل امتدت لتشمل مناطق أخرى مثل طلبة الجامعة والمدارس العليا والثانويات .
وفى مناسبة الاحتفال بذكرى عيد الجهاد الوطنى يوم الاربعاء 13 نوفمبر 1935 أضربت المدارس والكليات وألقيت الكلمات الحماسية التى تندد بالسياسة الاستعمارية وخرجت المظاهرات،وأمام قصر عابدين حدث صدام عنيف بين المتظاهرين وبينهم الطالبة حكمت أبو زيد والطالب جمال عبد الناصر،وقوات الأمن،وفى العباسية تكرر الوضع ،واندلعت شرارة الإنتفاضة إلى الاقاليم حيث سقط عشرات الجرحى والشهداء .
الفصل السابع " انتفاضة الطلبة والعمال 1946 "ومنذ انتفاضة 1935 وقلب الحركة الطلابية يدق،رغم ما شهده الشارع السياسى من محاولات استقطاب ومنافسة حزبية على هذه الحركة ،وفى التاسع من فبراير 1946 عقد الطلبة مؤتمرا عاما فى جامعة القاهرة حضره قرابة عشرة الاف منهم وقرروا على إثره التوجه فى مظاهرة كبرى إلى قصر عابدين لرفع مطالبه إلى الملك بوقف المفاوضات الدائرة وإلغاء معاهدة 1936واتفاقيتى 1899 الخاصتين بالسودان،وأثناء عبورهم كوبرى عباس قام البوليس بفتحه أثناء مرورهم فوقه ،ثم هاجمهم من الخلف مما أدى إلى إلقاء المئات منهم بأنفسهم فى النيل ،وتفجرت المقاومة الشعبية فى كل مكان ،ومالبثت المظاهرات أن انتشرت فى كل المدن الكبرى احتجاجا على المذبحة وهو ما أدى إلى استقالة وزارة النقراشى وخلفتها وزارة اسماعيل صدقى الثالثة ،وبعدها بيومين تكونت اللجنة الوطنية للطلبة فى إحدى مدرجات كلية الطب،وأصدرت ما عرف بميثاق 17 فبراير الذى نص على الجلاء التام وتدويل القضية المصرية والتحرر من العبودية الاقتصادية ،وفى نفس الوقت دخل العمال المعركة كقوة مستقلة عن القيادات الحزبية،وأقاموا هيئة اتصال مع الطلاب وفى 18،و19 فبراير اندمجتا الحركتين فيما عرف باسم " اللجنة الوطنية "للعمال والطلبة " قادتها طلائع مختلف فصائل الحركة الشيوعية وشباب الوفد واتحاد نقابات العمال،وفى أول اجتماع لهذه الجنة أصدرت قرارها التاريخى بأن يكون يوم الخميس 21 فبراير يوم الجلاء،يوم إضراب عام لجميع هيئات الشعب وطوائفه.
الفصل الثامن "الثورة المجهضة يوليو1952 " يرى الدكتور حافظ أن ثورة يوليو 1952جاءت كإنفجار حتمى لوضع متفجر وثمرة لاحتدام المسالة الاجتماعية وفشل العهد البائد فى تحقيق آمال الاستقلال والتقدم والديمقراطية .
ويمكن القول أن ثورة يوليو أفادت من تراكم فعاليات الحركة الوطنية التى سبقتها ومهدت لها،حين تبنت برنامج النهوض الذى صاغته كافة القوى الوطنية،عبر قرن ونصف من العمل والنضال والإبداع،بما يعنى أن هذا المشروع لم يقم على القطع التاريخى مع ما قبله على نحو ما تصوره بعض الكتابات بقدر ما كن تعميقا لتيار الحركة الوطنية .
ورغم كل ما أحاط بثورة يوليو من ظروف معقدة سواء فى التحديات التى واجهتها أو فى المطامح التى قادتها،أو فى الأخطاء التى ارتكبتها فهى فى جوهرها امتداد للموجات المتصارعة للحركة الوطنية التى حلمت بالحد من التبعية البنيوية للمتربول الرأسمالى،وإنجاز مشروع قومى،ولكنها كانت تحمل بذور إجهاضها من داخلها،وتربص القوى الخارجية بها،والتى مثلتها القوى الإمبريالية المتحالفة مع الصهيونية .
الفصل التاسع " هبة الجياع 1977 " بدأت الهبة مع الإعلان عن " تعديل المسار الاقتصادى " وصدور قرارات يوم 17 يناير وفى مقدمتها إلغاء الدعم الحكومى للسلع الأساسية،ومعها رسوم الدمغة والجمارك والإنتاج والاستهلاك وضرائب السيارات،وبدأت المظاهرات مع خروج عمال شركة مصر حلوان للغزل والنسيج ونجاحهم فى ضم بعض عمال المصانع الأخرى بالمنطقة،وأكدت هذه الأحداث أنها الهبة الأوسع مدى منذ ثورة 1919 مع اقترابها فى لحظات اشتعالها من شكل الثورة الشعبية ،فهى المرة الأولى منذ ثورة 1952 التى خرجت فيها الجماهير بهذا الحجم على امتداد تسع محافظات ،وأيضا خروج القوات المسلحة لإعادة الانضباط إلى الشارع بعد أن عجزت قوات الأمن والشرطة .
أما فى الختام فيقول الدكتور حافظ دياب :تشهد الساحة المصرية فوران، وشيوع مدرسة تفتيت القضية الوطنية لكسر صغيرة كحقوق المعاقين ،الطفل،تمكين المرأة،انتشار دكاكين الدفاع عن حقوق الانسان كالفطر السام بأموال اجنبية ،وتحول المناضلين إلى نشطاء،وحالة التبعية التى نجحت موجاتها فى تطويق فعاليات الحركة الوطنية من قبل قوى محلية مرتبطة بالخارج وتتعارض فى مصالحها مع القوى الإجتماعية القاعدية .
ولكن هناك إحتمال لخروج الحركة الوطنية من مأزمها،وهو ما يعبر عنه مشهد التجاوز الذى يظل مشروطا بتحقيق أهدافها فى تحرير القرار ،وتكريس الديمقراطية،وتوحيد الأمة ،وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر إستراتيجية جماهيرية تجد طريقها فى المستقبل .
المؤلف:
الدكتور محمد حافظ دياب من مواليد محافظة الدقهلية،مصر عام 1938 ،وأستاذ الانثروبولوجيا غير المتفرغ بكلية الاداب بجامعة بنها،حصل على الدكتوراة من جامعة القاهرة عام 1980 عن حياة المهاجرين الجزائريين فى مدينة مرسيليا الفرنسية،وهو عضو بكل من: الجمعية الدولية لعلم الاجتماع،مؤسس للجمعية العربية لعلم الاجتماع،لجنة الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للثقافة،مجلس بحوث العلوم الاجتماعية والسكان بأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا،اللجنة العلمية الدائمة للترقية بأكاديمية الفنون، لجنة الدراسات الاجتماعية بالمجلس الأعلى للثقافة ،رئيس مؤتمر أدباء الدقهلية 2010م،مستشار ثقافى لهيئة قصور الثقافة.
ومن أعماله مقدمة فى علم اجتماع اللغة 1980،سيد قطب – الخطاب والأيديولوجيا ،الإسلاميون المستقبلون – الهوية والسؤال 2001،الثقافة 2003،الخطاب الأهلى – مساءلة نقدية 2006،سبى الرافدين 2007،الخلدونية والتلقى 2009،تعريب العولمة 2009 .
http://www.gomhuriaonline.com/main.asp?v_article_id=256785#.Vf2ASVddtCx.blogger
قاهرة الألف عام ، تلك المدينة التى لم تفتقر يوما إلى حياة سياسية نشطة ومقاومة تمثلت على طول حلقات الحركة الوطنية فى مصر ، فيما لا يغفل هذا بالطبع دور الأقاليم ، وهو أمر عاينه جمال حمدان حين رأى فى هذه المدينة عنق الزجاجة ،عنق مصر، فهى من الناحية الهندسية البحتة مركز الثقل الطبيعى ، ومن الناحية الميكانيكية نقطة الإرتكاز ومن الناحية الحيوية نقطة التبلور ، ومن الناحية الوظيفية ضابط الإيقاع بين كفتى مصر .
هذا ما جاء بكتاب " إنتفاضات أم ثورات فى تاريخ مصر الحديث " لمؤلفه الدكتور محمد حافظ دياب،والذى على ضوء ثورة 25 يناير يحاول توضيح هل ما حدث فى مصر الحديثة منذ مقاومة المصريين للغزو الفرنسى وحتى الآن ، ثورات أم مجرد انتفاضات؟ .
ففى الفصل الأول "مصر وأطياف الثورة " يوضح معنى الثورة بسبب تداخله مع مفاهيم أخرى تتشابك وتتفارد خلفياتها،فكلمة ثورة كانت فى الأصل مصطلحا فكريا وتعنى الحركة الإعتيادية الدائرية المتكررة للنجوم ، واستخدمت الكلمة لأول مرة فى المعجم الإنجليزى عام 1960، وتحولت دلالتها إلى تلك الحركات التى تستهدف تغييرا إجتماعيا راديكاليا،كالثورة الفرنسية التى شكلت أول ثورة شعبية ديمقراطية ، وبجانب مفهوم الثورة هناك مفاهيم أخرى تداخلت معها منها الإنقلاب ، الانتفاضة،التمرد ، الفتنة أو الهوجة ، والهبَة .
ويعد الانقلاب عملية منظمة لقلب نظام الحكم بالقوة لاستبدال سلطة بأخرى،ويقوم به فى العادة فصيل من المؤسسة العسكرية ، ويظهر حين تستنفذ مرحلة ما إمكاناتها،وقد يكون دمويا إذا وجد مقاومة ، ولكنه فى كل الأحول يبقى على العلاقات الإنتاجية السائدة ، أما الانتفاضة فهى شكل جنينى للثورة ، وتعتمد على القوة الجماهيرية حين تصل معاناتها إلى درجة لا يمكن تقبلها،وتستهدف التأثير على السياسات الحكومية ، أما التمرد فهو عملية جماعية تقوم على الاحتجاج والعصيات وتتخذ شكل الاضراب والاعتصام والتظاهر وتتسم بالطبيعة العفوية والتراوح بين القوة الناعمة والخشنة وعدم تراكم الخبرة أو الوعى وتوجه غالبا كتعبير عن مصالح فئوية،والفتنة تعبر عن الاختلاف والصراع الدينى أو المذهبى ، وقد يصل إلى الحرب الأهلية والتنازع الطائفى بما يهدد وحدة الجماعة ، أما الهبَة فممارسة عفوية ضد الظلم .
وفى الفصل الثانى " مقاومة الغزو الفرنسى "يرى المؤلف أن الغزو الفرنسى على مصر عام 1798 مثل مفتتح الغزوات الاستعمارية على الأراضى العربية،فمعاينة آثار هذا الغزو تمثل أحد الإنشقاقات المشوهة التى نتج عنها إنقسام النخبة المثقفة حول دور الغزو الفرنسى فى التأريخ لبدأ نهضة مصر فمنهم من رأى أن هذه الحملة صدمة حضارية للمصريين ، ومنهم من أكد على وجود إرهاصات داخلية ملموسة لنهضة مصرية قبل قدوم الحملة .
ووفقا لهذا التباين اللافت حول دور الحملة الفرنسية اختزل الموقف بين مع أو ضد بين النظر إلى هذه الحملة كبداية نهضة،أو اعتبارها مقاومة مستمرة للاستعمار ، وربما لهذا هناك من أمسك العصا من الوسط ،فرأى بأن النهضة فى مصر بدأت بفعل العامل الخارجى ، ضاربا المثل بنفس ما أحدثه قدوم بونابرت إلى إيطاليا وروسيا وألمانيا ، التى يؤرخ لنهضتها الحديثة بهذا القدوم ، وفى حالة مصر،فإن هذا العامل الخارجى وقع على تربة خصبة،هى الارهاصات القائمة مما أدى إلى نموها .
وفى الفصل الثالث "ملحمة رشيد 1807 " نجد أن الحملة الفرنسية أسفرت عن لفت أنظار الدول الأوربية إلى أهمية مركز مصر وموقعها الاستراتيجى،وكرست مقاومتها لها ما عرف بعد ذلك بالنضال الوطنى ضد المحتل ،وبدء تبلور مفهوم الأمة وولادة قيادة شعبية مصرية جديدة داخل المجال المجتمعى العام ،تمثلت بالكتلة الشعبية التى قادها نقيب الأشراف السيد عمر مكرم .
أما فى الفصل الرابع " الجهادية والوطنيون 1881 " فنرى أن معركة رشيد أكدت لمحمد على عبقرية المكان المصرى ومعنى الشعبية المصرية الطالعة فانصرف بعدها لترتيب البيت من الداخل حيث جرى إخراج القوة المملوكية من معادلة السلطة بتدبيره لمذبحة القلعة عام 1811 وإلغاء نظام الالتزام عام 1813 والاستيلاء على كل الأراضى الزراعية وحرمان الأشراف كبار الملاك القدامى من ممتلاكاتهم ونفوذهم وتنظيم الطرق الصوفية بتعيينه المسئولين عن " السجاجيد الباهرة " وضرب تنظيمات الطوائف الحرفية لكى يعمل أعضاؤها فى مصانعه وتقنين وصايته على مصدر شرعيته:الأزهر حين قام بتعيين الشيخ محمد الشنوانى شيخا بعد وفاة الشيخ الشرقاوى خلافا لما أجمع عليه العلماء بترشيح محمد المهدى،ومصادرته أموال الشيخ السادات وتهديد أرملته بإغراقها فى النيل والتخلص من الزعامة الشعبية التى مثلها عمر مكرم بنفيه .
ومع تزايد اضطراب نضوج الوعى الوطنى جليا مع تصاعد انتشار التعليم ،الصحف الرسمية والشعبية،وتكون الجمعيات السرية والعلنية ومعها حصيلة التجارب البرلمانية الأولى التى أتاحت للمصريين فرصة مناقشة أحوالهم أواخر عهد اسماعيل لتخلق نخبة جديدة من ضباط الجيش وملاك الأراضى والمثقفين وموظفى الحكومة،بدأت تدعو إلى الوقوف ضد الخديو والأجانب .
كانت البداية عام 1876 حين تكونت جمعية سرية باسم مصر الفتاة أشرف عليها جمال الدين الأفغانى ورأسها على الروبى وأنضم إليها من العسكريين أحمد عرابى وعلى فهمى واستهدفت ضرب السيطرة التركية وتحسين وضع المصريين فى الجيش وإشاعة جو من الحريات العامة ومثلت نواة لأول حزب سياسى فى مصر .
الفصل الخامس " ثورة كل المصريين 1919 " ،وعقب هزيمة الثورة العرابية عاشت مصر وطأت احتلال لم يتوقف عند كونه مجرد واقع وجودى استعمارى،بل امتد ليشمل مناهج وطرائق جديدة لسلطته اعتمدت على نوع جديد من السيطرة والضبط كإطار يمكنه من تنظيم وتيسير مصالحه .
وتعتبر ثورة 1919 أول ثورة وطنية فى العالم تنفجر بعد الحرب العالمية الأولى وأول حدث جمع المصريين على اختلاف عقائدهم ومذاهبم وأجيالهم،وأقرب وأجل الأحداث إلى قلوبهم حيث بدت وكأنها ترد الاعتبار إلى أحمد عرابى فى شخص سعد زغلول .
الفصل السادس "إنتفاضة الطلبة 1935 " وكلنا يعرف أن دور الحركة الطلابية يكون الأكثر بروزا على الصعيد الوطنى،وبخاصة عبر لحظتين:عندما تصبح قضية الاستقلال أو القضية الوطنية بمعناها الشامل هى القضية المركزية فى الحياة السياسية ومحل إجماع القوى الوطنية ،أو حين تغيب القوى السياسية أو تعانى من ضعف يعوقها عن ممارسة أدوارها بكفاءة فتصبح الحركة الطلابية بمثابة المعبر عن آمال واهداف وتشوفات المجتمع .
ورغم أن الحركة الطلابية فى مصر قد عرفت قبل انتفاضتها عام 1935 فعاليات متواترة فإنه عادة ما يشار إلى هذه الانتفاضة بإعتبارها من أهم ما قدمته هذه الحركة حيث لعبت دورا بارزا فى تحريك الشارع السياسى ضد ممارسات الاحتلال واتفاقية صدقى – بيفن ومشروع تحالف الشرق الأوسط،ففى عام 1935 ساد التوتر مع تولى توفيق نسيم الوزارة التى أعلنت عن نيتها إعادة دستور 1923 الذى ألغاه إسماعيل صدقى وأستبدله بدستور 1930 ،غير أن وزارة نسيم لم تحسم نيتها وتزامن ذلك مع غزو ايطاليا للحبشة وخشى المصريون أن تزج بريطانيا ببلادهم فى عمل عسكرى ضد ايطاليا وفى هذا الجو المشحون ألقى وزير الخارجية البريطانى " سير صمويل هور" بيانا أعلن فيه عدم ملاءمة دستور 1923 للبلاد مما أدى إلى إدلاع مظاهرات لم تقتصر على العاصمة بل امتدت لتشمل مناطق أخرى مثل طلبة الجامعة والمدارس العليا والثانويات .
وفى مناسبة الاحتفال بذكرى عيد الجهاد الوطنى يوم الاربعاء 13 نوفمبر 1935 أضربت المدارس والكليات وألقيت الكلمات الحماسية التى تندد بالسياسة الاستعمارية وخرجت المظاهرات،وأمام قصر عابدين حدث صدام عنيف بين المتظاهرين وبينهم الطالبة حكمت أبو زيد والطالب جمال عبد الناصر،وقوات الأمن،وفى العباسية تكرر الوضع ،واندلعت شرارة الإنتفاضة إلى الاقاليم حيث سقط عشرات الجرحى والشهداء .
الفصل السابع " انتفاضة الطلبة والعمال 1946 "ومنذ انتفاضة 1935 وقلب الحركة الطلابية يدق،رغم ما شهده الشارع السياسى من محاولات استقطاب ومنافسة حزبية على هذه الحركة ،وفى التاسع من فبراير 1946 عقد الطلبة مؤتمرا عاما فى جامعة القاهرة حضره قرابة عشرة الاف منهم وقرروا على إثره التوجه فى مظاهرة كبرى إلى قصر عابدين لرفع مطالبه إلى الملك بوقف المفاوضات الدائرة وإلغاء معاهدة 1936واتفاقيتى 1899 الخاصتين بالسودان،وأثناء عبورهم كوبرى عباس قام البوليس بفتحه أثناء مرورهم فوقه ،ثم هاجمهم من الخلف مما أدى إلى إلقاء المئات منهم بأنفسهم فى النيل ،وتفجرت المقاومة الشعبية فى كل مكان ،ومالبثت المظاهرات أن انتشرت فى كل المدن الكبرى احتجاجا على المذبحة وهو ما أدى إلى استقالة وزارة النقراشى وخلفتها وزارة اسماعيل صدقى الثالثة ،وبعدها بيومين تكونت اللجنة الوطنية للطلبة فى إحدى مدرجات كلية الطب،وأصدرت ما عرف بميثاق 17 فبراير الذى نص على الجلاء التام وتدويل القضية المصرية والتحرر من العبودية الاقتصادية ،وفى نفس الوقت دخل العمال المعركة كقوة مستقلة عن القيادات الحزبية،وأقاموا هيئة اتصال مع الطلاب وفى 18،و19 فبراير اندمجتا الحركتين فيما عرف باسم " اللجنة الوطنية "للعمال والطلبة " قادتها طلائع مختلف فصائل الحركة الشيوعية وشباب الوفد واتحاد نقابات العمال،وفى أول اجتماع لهذه الجنة أصدرت قرارها التاريخى بأن يكون يوم الخميس 21 فبراير يوم الجلاء،يوم إضراب عام لجميع هيئات الشعب وطوائفه.
الفصل الثامن "الثورة المجهضة يوليو1952 " يرى الدكتور حافظ أن ثورة يوليو 1952جاءت كإنفجار حتمى لوضع متفجر وثمرة لاحتدام المسالة الاجتماعية وفشل العهد البائد فى تحقيق آمال الاستقلال والتقدم والديمقراطية .
ويمكن القول أن ثورة يوليو أفادت من تراكم فعاليات الحركة الوطنية التى سبقتها ومهدت لها،حين تبنت برنامج النهوض الذى صاغته كافة القوى الوطنية،عبر قرن ونصف من العمل والنضال والإبداع،بما يعنى أن هذا المشروع لم يقم على القطع التاريخى مع ما قبله على نحو ما تصوره بعض الكتابات بقدر ما كن تعميقا لتيار الحركة الوطنية .
ورغم كل ما أحاط بثورة يوليو من ظروف معقدة سواء فى التحديات التى واجهتها أو فى المطامح التى قادتها،أو فى الأخطاء التى ارتكبتها فهى فى جوهرها امتداد للموجات المتصارعة للحركة الوطنية التى حلمت بالحد من التبعية البنيوية للمتربول الرأسمالى،وإنجاز مشروع قومى،ولكنها كانت تحمل بذور إجهاضها من داخلها،وتربص القوى الخارجية بها،والتى مثلتها القوى الإمبريالية المتحالفة مع الصهيونية .
الفصل التاسع " هبة الجياع 1977 " بدأت الهبة مع الإعلان عن " تعديل المسار الاقتصادى " وصدور قرارات يوم 17 يناير وفى مقدمتها إلغاء الدعم الحكومى للسلع الأساسية،ومعها رسوم الدمغة والجمارك والإنتاج والاستهلاك وضرائب السيارات،وبدأت المظاهرات مع خروج عمال شركة مصر حلوان للغزل والنسيج ونجاحهم فى ضم بعض عمال المصانع الأخرى بالمنطقة،وأكدت هذه الأحداث أنها الهبة الأوسع مدى منذ ثورة 1919 مع اقترابها فى لحظات اشتعالها من شكل الثورة الشعبية ،فهى المرة الأولى منذ ثورة 1952 التى خرجت فيها الجماهير بهذا الحجم على امتداد تسع محافظات ،وأيضا خروج القوات المسلحة لإعادة الانضباط إلى الشارع بعد أن عجزت قوات الأمن والشرطة .
أما فى الختام فيقول الدكتور حافظ دياب :تشهد الساحة المصرية فوران، وشيوع مدرسة تفتيت القضية الوطنية لكسر صغيرة كحقوق المعاقين ،الطفل،تمكين المرأة،انتشار دكاكين الدفاع عن حقوق الانسان كالفطر السام بأموال اجنبية ،وتحول المناضلين إلى نشطاء،وحالة التبعية التى نجحت موجاتها فى تطويق فعاليات الحركة الوطنية من قبل قوى محلية مرتبطة بالخارج وتتعارض فى مصالحها مع القوى الإجتماعية القاعدية .
ولكن هناك إحتمال لخروج الحركة الوطنية من مأزمها،وهو ما يعبر عنه مشهد التجاوز الذى يظل مشروطا بتحقيق أهدافها فى تحرير القرار ،وتكريس الديمقراطية،وتوحيد الأمة ،وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر إستراتيجية جماهيرية تجد طريقها فى المستقبل .
المؤلف:
الدكتور محمد حافظ دياب من مواليد محافظة الدقهلية،مصر عام 1938 ،وأستاذ الانثروبولوجيا غير المتفرغ بكلية الاداب بجامعة بنها،حصل على الدكتوراة من جامعة القاهرة عام 1980 عن حياة المهاجرين الجزائريين فى مدينة مرسيليا الفرنسية،وهو عضو بكل من: الجمعية الدولية لعلم الاجتماع،مؤسس للجمعية العربية لعلم الاجتماع،لجنة الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للثقافة،مجلس بحوث العلوم الاجتماعية والسكان بأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا،اللجنة العلمية الدائمة للترقية بأكاديمية الفنون، لجنة الدراسات الاجتماعية بالمجلس الأعلى للثقافة ،رئيس مؤتمر أدباء الدقهلية 2010م،مستشار ثقافى لهيئة قصور الثقافة.
ومن أعماله مقدمة فى علم اجتماع اللغة 1980،سيد قطب – الخطاب والأيديولوجيا ،الإسلاميون المستقبلون – الهوية والسؤال 2001،الثقافة 2003،الخطاب الأهلى – مساءلة نقدية 2006،سبى الرافدين 2007،الخلدونية والتلقى 2009،تعريب العولمة 2009 .
http://www.gomhuriaonline.com/main.asp?v_article_id=256785#.Vf2ASVddtCx.blogger
0 التعليقات:
إرسال تعليق